حتى لو لم نكن من بين الذين تظاهروا في التسعينيات ضد اعتقال «الرفاق اليابانيين» (لصغر سننا وقتها)، إلا أنّ جيلنا يعرف قصة مجموعة «مجانين» قدموا من الجهة الأخرى للكرة الأرضية، تاركين عالماً نجهله ليواجهوا عالماً يجهلونه، وينضمّوا إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مجابهين الإمبريالية بعظمتها. فدائيون «مخرّبون» للأمان المزيّف تحت الحكم الرأسمالي. نفّذ «الرفاق» عمليات خطف طائرات (أشهرها عمليّة مطار اللّد) وهجمات على سفارات، وخطف مواطنين أجانب. كان أداشي مساو، من المخرجين الرائدين في الموجة اليابانية الجديدة، وأحد هؤلاء المقاتلين. اليوم، تنظّم «المعارض الفنيّة» في «الجامعة الأميركية» في بيروت معرضاً عنه وعن أعماله بعنوان: «كَت/ غاش/ سلاش- أداشي مساو- المشهد من وجهة نظر محارب».
من المعرض

إلى جانب المجموعات العسكرية العديدة التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي، شغل الجيش الأحمر الياباني (مجموعة مناهضة للإمبريالية)، دول العالم المتحضّر. «مخرّبون، إرهابيون، ومجرمون»، كلمات كان الغرب يستخدمها ضدّهم، وما زالت هوليوود تزخر بها. كلمات تظهر في العديد من المقالات الأجنبية التي أظهرها بحث أوكتافيان إيسانو وغو هيراساوا القيّمين على معرض «كَت/ غاش/ سلاش- أداشي مساو- المشهد من وجهة نظر محارب» الذي افتتحته الجامعة الأميركية مساء الأربعاء في بيروت. يركّز المعرض على حقبة محدّدة من حياة أداشي مساو (1939) ومجموعته: فترة اعتقاله سنة 1997 في بيروت، وما أحاط بها من «رغبة الحكومة اللبنانية في تلميع صورتها على الصعيد الدولي.» يقول النص التعريفي للمعرض: «إثر زيارة لـ «مهرجان كان السينمائي»، توقف مساو وواكماتسو (المخرج الذي عمل معه) في بيروت لمقابلة مقاتلين فلسطينيين وتصويرهم. حينها، أعلن مساو أنه مقاتل في سبيل الثورة العالمية وقضية العرب. وأمضى 27 عاماً في الشرق الأوسط، جلّها في وادي البقاع (خطأ المترجم). بعد انسحاب الجيش الأحمر من البقاع عام 1997، استقر في بيروت. لا تتوافر معلومات وفيرة حول تلك الحقبة من حياته. ينقل مساو أنه عمل على أفلام عدة، لكن موادها قد دُمّرت بفعل غارات طيران. وفي عام 1997، تمّ اعتقال مساو إلى جانب أربعة من أعضاء الجيش الأحمر الياباني (...) قضى مساو ثلاث سنوات في سجن رومية شمال بيروت بتهمة تزوير جواز سفر، ودخول وإقامة غير مشروعين في لبنان (...) وفي عام 2001، تمّ استرداده من قبل السلطات اليابانية». ينقسم المعرض إلى خمسة أجزاء: فيلمان لمساو (ينتميان لموجة الـ «فوكاي-رون» اليابانية Fukei-Ron - Theory of landscape نظرية المشهد)، مقالات عن اعتقال المجموعة في بيروت في أواخر التسعينيات، رسومات لمساو داخل سجن رومية، نصوص وكتب لمساو وعنه، ونقاش عبر سكايب شارك فيه الحضور خلال الافتتاح مع مساو من اليابان.
تحتوي المقالات على تحليلات للاعتقال ولعمليات الجيش الأحمر الياباني، وتنقسم بوضوح بين محلية تتكلّم عن الاعتقال بروحية ما بعد الحرب والحاجة إلى «الاستقرار»، وأجنبية متطرّفة في مهاجمتها لهم كإرهابيين ومجرمين.
عند سؤاله عن سبب اختياره أعمال مساو، يجيب أوكتافيان إيسانو: «اخترته هو لا أعماله الفنية. عرفت عن هذه المجموعة اليابانية، فاهتممت بنقل تجربتهم، وتعريف اللبنانيين بهم». بيد أن إيسانو يبدو في محاولته هذه غير مدرك بأن «اللبنانيين» يعرفون هذه المجموعة بالذات، وإن لم يعرفوا أعمال مساو.
أمّا عن «نظرية المشهد» في السينما اليابانية، فيقول إيسانو: «هو مفهوم خاص باليابان. هو بلد فقد الريف. تسافرين من مدينة إلى مدينة، فلا ترين سوى المباني، الشكل المتقدّم للرأسمالية. هناك القطارات السريعة، والمشهد الرأسمالي، والتراكم الرأسمالي، والدعايات التي تسيطر على العمارة... المشهد يلتقط علامات الرأسمالية ويحفظها، ويسجّل العلاقات المعقدة للاستغلال. وهذا ما يظهره هذا الجنر genre من السينما».
غيّب المعرض رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين


وبخصوص التواصل مع رفاق مساو من الجبهة الشعبية في لبنان، وسؤالهم عنه وعن أفلامه ووجودهم داخل المعرض، ردّ إيسانو بأن البحث الذي أجراه تخلّل فيلميه والمراجع التي وجدها في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، والذهاب إلى اليابان لاستخراج مواد وكتب لمساو وعنه، لأنّ الميزانية لم تتضمن الاتصال برفاقه هنا. بيد أن من الغريب أن تتحمّل ميزانية المشروع السفر إلى اليابان لإجراء البحث، ولا تستطيع أن تدعم اتصالاً بينه وبين من يعيش على الأغلب معه في بيروت من رفيقات ورفاق مساو ومعاصريه من الجبهة، التي قضى معهم أكثر من 27 سنة في لبنان. أمّا النقاش مساء الأربعاء، فانقسم إلى تقديم ورقة من الباحث والأكاديمي في الجامعة الأميركية في بيروت جوشوا ديفيد غونزالفيس، ومداخلة قصيرة من مساو، وتعريف من قبل غو هيراساوا عنه، تبعتها أسئلة الجمهور.
وكانت ورقة غونزالفيس المادة الأكثر دسامة في تحليل فيلمي مساو وعمله السياسي والموجة السينمائية التي ينتمي إليها. يقول غونزالفيس في عرض ورقته نقلاً عن فيلمي مساو «إن أفضل شكل من أشكال البروباغاندا هو الكفاح المسلّح». ويقارن غونزالفيس بين أعمال مساو وجان لوك غودار، وأعمال السينما السوفياتية كدزيغا فيرتوف وسيرغي آيزنستين، رائد نظريات المونتاج. وينهي غونزالفيس ورقته بسؤال «من هو عدوّنا، بعيداً عن كليشيات الرأسمالية؟» ببساطة أو سذاجة من يدرس عملاً لأداشي مساو، المخرج المحارب في الجيش الأحمر الياباني، أحد الذين أجابوا عن هذا السؤال بالشكل النظري والتطبيقي، واليومي.
من ناحية أخرى، يقول مساو عن تجربته: «بالنسبة لي، فالعمل السياسي والكفاح المسلح والإنتاج الفني، هي أشياء متشابهة». وحين سئل إن كان يظن بأن هناك إمكانية لإسقاط عمل سياسي على المشهد اليوم، كما فعل في أفلامه في الحقبة الماضية، أجاب: «هناك إمكانية لأن يمثّل مشهد مختلف، الحركة السياسية المحددة لكل وقت».
تشكّل أعمال آداشي مساو، لا بل شخصه، تحدّياً للسائد في يومنا هذا. هو تحدّ للزمن الذي مضى ويريدونه أن يُنسى، وتحدّ لمدارس الفن المنفصلة عن السياسة، وتحدّ للعمل السياسي المنفصل عن الانخراط في قضية. المعرض الذي نتكلّم عنه هنا لا يعالج أعمال فنان فقط، المعرض عنه، عن شخص اسمه أداشي مساو. وحياة مساو احتفال بالمقاومة حتى آخر نفس. بغرض المقارنة، لنفكّر قليلاً، بعدد الأشخاص الذين نعرف عنهم ويستحقّون معرضاً (غير مملّ) عن حياتهن/ م.

* «كَت/ غاش/ سلاش- أداشي مساو- المشهد من وجهة نظر محارب»: من الثلاثاء حتى السبت (12 ظهراً حتى 18:00 مساء) ــ الجامعة الأميركية في بيروت ـ للاستعلام: 01/350000_ ext:4345