قبل شهرين، أطلقت «جيليت» إعلاناً ضمن حملة We Believe، للتوعية ضد «الذكورة السامّة Toxic masculinity. لم تخفت حدّة الجدل حول إعلان الماركة العالمية لأدوات ومستحضرات الحلاقة، والذي وضعه كثيرون في قائمة الإعلانات «التي أخطأت جمهورها المستهدف» Target audience.نحو مليون وأربعمئة ألف «عدم إعجاب» على يوتيوب بين نحو 29 مليون مشاهدة مقابل 777 ألف إعجاب، وبين آلاف التعليقات وعشرات المقالات المستاءة من محتوى الإعلان، علت الأصوات لمقاطعة «جيليت» ومطالبتها باعتذار عما اعتبروه «إهانة للرجال».
الإعلان هو عبارة عن فيلم قصير يُظهر مشاهد تمثيلية للتحرش، التنمر، العنف وغيرها من السمات التي ترتبط بمفهوم «الذكورة السامة». نسمع في الخلفية صوت رجلٍ يتساءل إذا كان هذا «أفضل ما يستحقه الرجال»، في إحالةٍ على الجملة الإعلانية الشهيرة التي رافقت منتجات «جيليت» لثلاثين عاماً. قبل أن نرى رجالاً (بالمناسبة كلهم حليقو الذقن!) يتدخلون لثني المتحرش والمتنمر والمعنف عن أفعالهم، مع دعوةٍ للرجل كي يحاسب الرجل الآخر، وليكن نموذجاً للصبية «الذين سيصبحون رجال الغد»، بحسب الإعلان.

غادة زغبي ـ بدون عنوان (زيت على قماش 70 × 50 سنتم ــ 2014 ــ تفصيل)

في بيانها الترويجي للحملة، قالت «جيليت» إن الأخبار تدل اليوم على أن الرجال «ليسوا في أفضل حال»، وأن كثيرين يجدون أنفسهم محجوزين بين عصرٍ ماضٍ من الذكورة وعصر جديد منها. ودعت الماركة العالمية إلى التغيير، مشيرةً إلى أنه آن الأوان للاعتراف بأن الماركات العالمية تؤدي دوراً في التأثير على الثقافة. وشجعت «جيليت» الرجال كي يكونوا «أفضل ما يمكنهم أن يكونوا». كما تعهدت تحدّي التنميطات والتوقعات من معنى أن تكون رجلاً، عبر إعلاناتها والصور التي تنشرها على منصات التواصل الاجتماعي، وفي الكلمات التي تختارها. وذكرت «جيليت» في البيان بأنها تلتزم التبرع بمليون دولار في السنة خلال ثلاث سنوات لمنظمات غير ربحية في الولايات المتحدة «تساعد الرجال كي يحققوا أفضل ما لديهم وكي يصبحوا مثالاً أعلى للجيل المقبل». رئيس الشركة الأم لـ «جيليت»، غاري كومب، قال إنه عبر جعل الرجال معرّضين للمحاسبة، وإلغاء الأعذار للتصرف السيئ ودعم جيل جديد يعمل باتجاه أفضل ما لديه، يمكن المساعدة في خلق تغيير إيجابي في السنوات الآتية، مؤكداً أن «الالتحاق بالحوار عن الرجولة الحديثة يعني تغيير كيفية تفكيرنا حول تصوير الرجل».

نعي «الرجولة»
أثار الإعلان سجالاً حاداً لم ينفصل عن النقاش الأكبر الذي أشعلته حركة Me too لمكافحة التحرش التي ظهرت في تشرين الأول (أكتوبر) 2017. يكفي إلقاء نظرة على التعليقات أسفل الإعلان على «يوتيوب» لمعاينة الغضب الذي أحدثته الماركة العالمية. معظم الآراء المعارضة لمحتواه، اتفقت على كون «جيليت» غامرت بقاعدتها الجماهيرية الأساسية، فقط لتركب موجة Me too في مناخ الصوابية السياسية الطاغي على المؤسسات الكبرى والميديا في الغرب. البعض دعا إلى مقاطعة منتجات الشركة، والبعض الآخر رأى أن الماركة تسعى فعلاً إلى مخاطبة النساء لرفع نسبة زبائنها بينهنّ (نسي كثيرون أن النساء أيضاً بمعظمهنّ يستعملن شفرات الحلاقة). «هذا جزء من الحرب على الرجال»، «كراهية الرجل لا تقل سوءاً عن كراهية المرأة»، «إنه تمييز جنسي مقلوب»، هي بعض الحجج التي قدمها أشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمة إعلان «جيليت». واحدة من المقالات المعارضة له (في «ذي ديلي ميل») استعانت بمذكرة صدرت عن «جامعة برنستون»، توصي الطلاب باستعمال لغة «محايدة جندرياً»: فعوضاً عن استخدام كلمة mankind يجب قول Humankind للدلالة على البشرية. أما السياسية الكندية المحافظة، إيزرا ليفنت، فاعتبرت أن كون مخرجة إعلان «جيليت» امرأة نسوية (الأسترالية كيم كيريغ)، يشبه أن يكون مخرج إعلان ما عن الفوط الصحية هو رجل في منتصف العمر. الأكيد أن «جيليت» أرادت مواكبة مفهوم جديد للذكورة آخذ في التشكّل في موازاة صراع النموذج القديم للبقاء. لقد أصبح معروفاً أنه في السنوات الأخيرة، ومع ارتفاع صوت النسويات ومجتمع الميم أكثر فأكثر، اتسع الحديث عن أنماط جديدة من الذكورة، بعيدة عن فكرة «الرجولة» التقليدية أو ما بات يُعرف حالياً على مستويات واسعة بـ «الذكورة السامة» Toxic masculinity. أرادت «جيليت»، الماركة المرتبطة تاريخياً بالرجل، بدورها نعي «الرجولة».
في الشهرين الأخيرين، تنامى الحديث بكثرة عن مفهوم الذكورة السامة، وأُفرد العديد من المقالات لمقاربته لا سيما بعد نشر «جيليت» إعلانها. ومع غياب التعريف الموحّد لهذا المفهوم، يمكن القول بالاستناد إلى بعض المقالات التي تطرقت إليه في الشهرين الأخيرين، إن الذكورة السامة تعني السلوك المؤذي والمواقف المرتبطة عموماً ببعض الرجال، مثل الحاجة إلى قمع العواطف خلال المواقف المشحونة، والتصرف بطريقة عدوانية تتسم بالهيمنة. بحسب مقال عن الموضوع في «الإندبندنت»، إن هذا السلوك هو واحد من أنماط متعددة للذكورة، وهو ينتهي إلى العنف، وهذا العنف إما ينعكس على هؤلاء الرجال أنفسهم أو على أشخاص آخرين. ويضيف أن الذكورة السامة هي عملية الاعتداءات الصغيرة التي تتصاعد إلى نقطة يصبح فيها العنف منعكساً على العالم.  
من جهته، يعرّف الطبيب النفسي الأميركي تيري كوبرز الذكورة السامة «كمجموعة من السمات الذكورية الرجعية على المستوى الاجتماعي التي تسهم في تعزيز الهيمنة، الميزوجينية (كره النساء)، الهوموفوبيا والعنف الجائر». قبل شهرين، أصدرت الجمعية الأميركية لعلم النفس، مجموعة إرشادات تدين الذكورة التقليدية وتصفها بـ«الضارة». وحددت أن «السمات الذكورية مثل عدم إبداء المشاعر، التنافسية، الإنجاز، الامتناع عن إظهار الضعف، المغامرة والمخاطرة، هي صفات سيئة ويجب شطبها».
بين المبادرات التي تعمل على مكافحة «الذكورة السامة»، مشروع «الرجل الجيد»، وهي تشرح أن الرجال الذين يستعرضون سلوكاً متماهياً مع الذكورة السامة، يرون السمات الأنثوية النمطية، مثل الهشاشة العاطفية، بشكلٍ سلبي. وتنقل «الإندبندنت» عن المبادرة اعتبارها أن الذكورة السامة لا تؤثر فقط في الصبية الذين يستعرضون سلوكاً مؤذياً، ولكن أيضاً على من حولهم ممن يرتبطون بالسمات الذكورية المتفق عليها.
«أدلجة» السلعة لتحميلها مجموعة أفكار جذابة وعصرية


استُخدم هذا المصطلح للمرة الأولى، من قبل أخصائية علم النفس، سيفرد بليس بين الثمانينيات والسعينيات. لكن ما كان يبدو في السابق «رجولة» أي الصورة التقليدية المتوقعة عن الذكور، أصبح اليوم «ساماً»، لسبب وهو أن نضال العقود الماضية والعديد من الحركات النسوية ساهمت في تبيان تعدد أنماط الذكورة وعدم توقف الأخيرة على نمط واحد يتغذى بقمع المرأة وبالسلوك العدواني تجاهها وتجاه الأنماط الأخرى (المثليون جنسياً على سبيل المثل).
ولكن ما علاقة الإعلان بهذا المفهوم؟ يضع الإعلان لنفسه «رسالة» وهي بصورة رئيسية الدعوة إلى تربية الأطفال الذكور بطريقةٍ مغايرة عما تربى عليه غالبية رجال اليوم. تنشئتهم على فكرة تعددية أنماط الذكورة، وعلى قيم مختلفة عن تلك المرتبطة بالرجولة التقليدية، تلك التي يرزح تحت ضررها الرجال كما النساء.

أدلجة السلعة
من البديهي القول، إن غاية أي إعلان هو تنمية مبيعات المنتج لا الحضّ على التغيير الاجتماعي. لكنّ الماركات العالمية باتت تعتمد في أحيانٍ كثيرة على «تسليع» القضايا الاجتماعية بهدف بناء هوية لها وإضفاء قيمة ومعنى على منتجها، حتى أصبح هناك شبه ظاهرة يمكن أن نسمّيها «نشاط الماركات». فكلما تبنّى المنتج قضية تخصّ المرأة أو الأقليات عموماً، خصوصاً في ظلّ الطفرة التي شهدتها سياسات الهوية في السنوات الأخيرة، كلّما جذبت المستهلك أكثر. هكذا أطلقت Nike قبل عام حملة إعلانية ضد التمييز العنصري، فيما أطلقت ماركة Just for men حملة تشجع الرجال على ألا يكونوا «اعتذاريين» حول العناية بمظهرهم، لإزالة الوصمة والمساهمة في إنهاء ما يعيب على الرجال الاهتمام بمظهرهم. الحملة الإعلانية بحسب موقعها تقول: «إنه ليس هناك طريقة وحيدة لتكون رجلاً، وإن العناية بالمظهر هي طريقة للتعبير عن هويتك الفريدة تجاه العالم». كذلك الأمر بالنسبة لـDove التي أطلقت قبل فترة حملة إعلانية تحضّ الرجال على «الاهتمام» بالآخرين أكثر، مؤكدةً في بيان الحملة أنه «ليس هناك شيء من قبيل الرجل النموذجي. دوف للرجال تحتفل بالرجال كما هم حقاً. متعددو الأوجه. أقوياء ومهتمون».
الاحتفاء بحملة «جيليت» والماركات الأخرى يأتي ممن يرون فيها خطوة مؤثرة ضمن سياق ثقافي ضاغط من أجل تغيير مفاهيم رجعية، وزيادة الوعي بقضايا محقة. ولكن في المقابل، تفتح هذه الحملات نقاشاً متعلقاً بما يمكن تسميته على وجه التحديد بـ«تسليع النسوية» الذي تنامى الحديث عنه بشكلٍ ملحوظ في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، أطلقت «ديور» قبل عامين، مجموعة قمصان كتب عليها We Should All Be Feminists (علينا جميعاً أن نكون نسويين). القميص لاقى رواجاً من قبل ممثلات ومغنيات مثل ريهانا وجينفر لورانس وغيرهما. المفارقة أن قيمة القميص بلغت 710$، ما يعني أن قلةً قليلة من النساء حول العالم بإمكانهن شراؤه أصلاً. خطوة «ديور» وشركات ملابس أخرى استخدمت عبارات مثل «نسوية»، «قوة الفتاة» وغيرهما من العبارات التي يمكننا أن نلاحظها في متاجر الماركات العالمية في أي عاصمة حول العالم، تثير سؤالاً قديماً حول ما يُعرف بالنسوية النيوليبرالية أو نسوية «المؤسسة»، وإذا ما كان هناك إمكانية حقاً أن تكون الشركات الكبرى «نسوية» حقاً.
وأبعد من النسوية نفسها، لعلّ أكثر ما يثير للاهتمام في حملة «جيليت» والحملات الشبيهة، هو المسعى إلى «أدلجة» السلعة. فمنذ زمن لم يعد كافياً في الإعلانات تعداد ميزات المنتج أو كيفية الإفادة منه، بل أصبح واجباً ابتكار أيديولوجيا حوله تجعله جزءاً من مجموعة أفكار جذابة وعصرية، مع بروز مؤخراً ضرورة تمتع هذه الأفكار بصفة «امتصاص الذنب» من فعل الاستهلاك. تُعدّ «ستارباكس» مثالاً شهيراً في هذا المجال، فهي تخبرنا منذ سنوات أن شراء كوب قهوة من محلاتها بسعر أكثر ارتفاعاً من غيرها، يمثل شراء «أخلاقيات القهوة»، لكون الشركة «منخرطة في برنامج التجارة العادلة، ومزارعو البنّ الذين يعملون لديها يتقاضون أجوراً عادلة» إلخ. يمكن العودة هنا إلى ما سمّاه المنظر الاقتصادي الأميركي جيريمي ريفكين بـ «الرأسمالية الثقافية»، حيث أصبحت الشركات الكبرى في العقود الأخيرة تهتم بإضافة بعد ثقافي على الترويج لنفسها، ما يمثل نقطة في صالحها على مستوى التنافس، وتبريراً أخلاقياً يجعل المستهلك راضياً عن نفسه عندما يختار هذه السلعة دوناً عن غيرها.
فربّما تماماً مثلما نستهلك القهوة بلا كافيين والأكل الأورغانيك عموماً، في مسعى صحي على المستوى الجسدي، وإبرائي على المستوى النفسي، هكذا أرادت «جيليت» أن تكفّر عن ذنبها التاريخي بأنها منتج خاص بالرجل وتتنصّل من النموذج السائد لهذا الأخير، ضمن حمّى الصوابية السياسية في العالم.