أخبرنا العِلم بعدد السنين التي يقضيها الإنسان نائماً، ويقال إنها تساوي ثلث عمر الواحد منا. لكنّ أحداً لم يخبرنا بعدد المرات التي تصمّ فيها آذاننا بزمامير السيارات خلفنا أو تلك المتوقفة أمامنا! ولا نعلم عدد السنين التي نضيعها من عمرنا ونحن منتظرون، أو زاحفون زحف السلحفاة، في طوابير السيارات على طرقات المدينة أو على الأتوستراد. فالأمر يعتمد على المدينة. عندما كنتُ مقيماً في برلين مثلاً، لم أعرف صوت زمّور سيارة العائلة إلا بعد مرور سنتين على اقتنائها، وفقط عندما طلبت من ابني قيس، تشغيله فقط كي أعرف صوته أو لحنه!في بلادنا، يختلف الأمر لأنّ الشخص يتعرف إلى صوت زمّور سيارته وسيارات الجيران منذ اللحظة الأولى التي يسكن فيها الشقة. لكن أصوات زمامير السيارات ليست سوى جانب من جوانب حياتنا في المدن. ثمة أمر لاحظته في بيروت، هو ما يمكن تسميته التنبيهات و«التعويذات» المكتوبة أحياناً على جانب من هياكل المركبات العمومية والحافلات، وكثيراً ما نراها مكتوبة عند مقابض أبواب السيارات الأمامية والخلفية، تنبّه الراكب إلى تجنب إغلاقها بعنف. نرى تلك التنبيهات عند مقابض «الماكرو» التي تنبه الراكب إلى أن الباب يفتح ويغلق من عند سائقه.
التعويذات قد لا تكون كتابةً. مثلاً، قد يضع بعض سائقي المركبات العمومية والخاصة، نسخة صغيرة من المصحف أمامهم، أو يعلقونها على المرآة العاكسة. مرة كنت في سيارة عمومية، فنبهني السائق إلى زبون أشار له بالتوقف، قبل أن يغيّر رأيه حين اقتربت المركبة. وعلّق السائق: «شفت أخو... كيف غيّر رأيهُ بعدما شاف الصليب معلق عالمراية»! ثم أكمل مسلسل الشتائم بحقه. بصراحة لم أنتبه للصليب، ولا يهمني هذا الأمر إطلاقاً. ما قصدته أن هذه التعويذات الدينية «المنشأ» الموضوعة لحماية المركبة ومن فيها أولاً وقبل أي شيء، قد تتحول إلى عامل سلبي.

على أي حال، عودة إلى طوابير المركبات في شوارع المدينة وساعات الانتظار اللانهائية. في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كنت أفضّل التوجه من منطقة أبو شاكر إلى الحمرا سيراً على الأقدام بدلاً من استقلال السرفيس. ببساطة، كان ذلك أسرع في ساعات محددة من اليوم. لكن مؤلفة كتاب/ مصور «محروسة ـ فن لبنان في الشارع» (Mahrooseh ـــ «دار رمال» ـ نيقوسيا ـــ 2019 ـ كتاب مصوّر بالعربية والإنكليزية ـ 160 صفحة رباعية الألوان وتجليد فني) للمصورة المحترفة فلك الشوا، خريجة الجامعة اللبنانية الأميركية في مجال التواصل الفني، لفت انتباهها أمر آخر في طوابير المركبات، وموجات الشاحنات الكبيرة والصغيرة على الطرقات، خاصة تلك التي تربط المدن والبلدات اللبنانية بعضها ببعض. هكذا، حوّلت الشوا مهمة ملاحقة الكتابات والتعويذات المسجلة عليها، إلى حافز ودافع للتجول في مركبة عمومية في أنحاء لبنان، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. بذلك، حققت أكثر من هدف، وأفادت أكثر من طرف. إذ سنحت لها ملاحقة الشاحنات الصغيرة والكبيرة، التجول في ربوع هذا البلد الجميل والتعرف إلى تضاريسه الأخاذة، وتوسيع معرفتها بألوانه الكثيرة، وتواريخه الباهرة. إضافة إلى ذلك، حولت ذلك إلى كتاب مصوّر. محظوظ من كانت هوايته هي مهنته، وهو أمر ليس عادياً في عالمنا اليوم حيث يسعى كل فرد إلى تعلم مهنة تدرّ دخلاً كبيراً.
كتبت الشوا عن ولادة فكرة الكتاب: «كان يوماً مثل باقي الأيام في زحمة سير بيروت، أنتظر بملل وأنظر حولي حتى لفتت انتباهي كلمة «محروسة» على حافلة نقل عمومي أمامي. بعدها بدأت ألاحظ الرسوم والخط، من عين الحسود، إلى الأرزة ورسوم فنية أخرى. قررت عندها بدء هذه الرحلة لتصوير أكبر عدد من الحافلات في مناطق لبنان. بلغ طول هذا الرحلات 61000 كلم، امتدت على سنين عديدة».


لم تقسّم الشوا كتابها إلى أجزاء، لكنها وضعت عناوين بأحرف كبيرة تشير إلى محتوى الصفحات اللاحقة. علماً بأنها سجلت الجمل والحكم المكتوبة على الشاحنات كما هي، من دون تصويب لغوي، وترجمتها إلى الإنكليزية، لفائدة «الأجانب» المقيمين الذين يحارون في محتوى الكلمات التي يرونها مكتوبة على الشاحنات والحافلات وحتى مركبات الأجرة، فيفهمون المعنى ويتعرفون إلى هذا التقليد.
العناوين الكبيرة التي وضعتها الكاتبة ينمّ بعضها عن اعتماد صاحب المركبة عليها، ما يدفعه إلى مخاطبتها، مثل «حبيبي زي القمر» و«طلت الحلوة»، و«مين أدك»، وبعضها الآخر «تعويذات» يأمل صاحب المركبة بأن تحميها هي ومن فيها وما فيها مثل «محروسة» و«شيل عيونك» و«يخزي العين» و«ما شاء الله» و«ميسرة» و«بالشكر تدوم النعم».
وثمة كتابات موجهة لسائقي المركبات الأخرى تدعوهم للانتباه والصبر مثل «طوِّل بالك» و«حلو الرواق»، وأخرى تعبّر عن مشاعر السائق مثل «أرزة» و«بحبك يا لبنان». ومع أن الجملة الأخيرة هي عنوان أغنية لفيروز، إلا أنها تعبّر في الوقت نفسه عن موقف السائق تجاه وطنه.
اختارت الكاتبة أن تسجل نصوصها باللهجة العامية والسبب «إضفاء الطبيعة الأصلية للحوارات التي دارت بينها وبين السائق وبينها وبين أصحاب الشاحنات والمركبات، لتمنح القارئ أجواء الرحلات» على حدّ تعبيرها.
يلاحظ القارئ أن الكاتبة اختارت أحد الرسوم على مركبة، وهي العين، لوضعها في صفحات الكتاب/ المصور وأيضاً للإهداء لعائلتها، كأنها تستخدمها كتعويذة لحماية نفسها وأحبائها ومحبيها، والقراء كذلك. كما اختارت أحد الرسوم «رضاك أمي» لتفتتح به مؤلفها، علماً بأن والدة فلك هي الناشرة المرموقة نورا الشوا صاحبة «دار رمال» المعروفة بانتقائها المؤلفات التي تنشرها، وهي تقيم في العاصمة القبرصية نيقوسيا حيث مقرّ الدار أيضاً.
كما يلاحظ القارئ أنّ فلك أضافت زعنف القرش إلى موجات مياه البحر المتوسط المرسومة مقابل ميناء طرابلس، فما سر ذلك يا ترى!


التقت فلك أخيراً بالخطاط والرسام يونس الذي خط تلك الجمل والتعاويذ والحكم، وتحدثت معه عن فنه، مما حوّل تلك الأعمال الفنية إلى لقاء محسوس مع مبدعها ولم تعد خطوطاً مجردة من منظور الناظر/ القارئ. هذا ما زاد من حميمية اللقاء مع تلك الشاحنات وأصحابها.
الخطاط يونس قال إنه كان يحب الخط والرسم، وجاء وقف العمل بالقانون الذي يمنع طلاء المركبات بأكثر من لونين، ليمنحه فرصة التعبير عن نفسه وإطلاق مواهبه التي وصل صيتها إلى القارة العجوز؛ فهل سنرى قريباً شاحنات ألمانية؟ بل لنقل: هل سنرى الشاحنات والمركبات التي يملكها شوام ولبنانيون مطلية بالرسوم والحكم والدعوات والآيات تجوب شوارع بعض الدول الأوروبية؟ لا أدري، فقد يتشجع بعضهم لدعوة الرسام يونس لنقل فنه إلى ألمانيا وغيرها، لكن من يدري إن كانت قوانين تلك الدول تسمح بذلك.
قال يونس إنه فخور أن رسومه تغطي مختلف أنحاء لبنان حيث خط أكثر من 1500 «كميون» (شاحنة) إلى الآن. هو فخور بعمله، إذ إنه اختار العمل في محل يافطات، مهملاً نصيحة أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة لتعلم الرسم والخط. وهو لا يحب إطلاقاً الاستعانة بالحاسوب لإعداد الرسوم والجمل، ويقول: «الحاسوب لليافطات، ويداي للخط والنقوش».
يقول الخطّاط والرسّام يونس إنه فخور بأنّ رسومه تغطي مختلف أنحاء لبنان


هل سيقبل الفنان يونس التوجه إلى أوروبا لتغطية بعض زوايا مركبات أوروبا وشاحناتها وحافلاتها بفنه، أم أنه يترك الأمر لعلي، الفنان الآخر الذي نرى توقيعه على زوايا بعض المركبات وجوانبها؟! فلك تُعلِمنا أن مشوارها مع السائق العمومي حسام، الذي تعرفت إليه إبان فترة التدريب في وكالة «رويترز»، دام أربع سنين، لاحقت خلالها الكميونات من بيروت إلى صور، فزحلة، وطرابلس. واكتشفت، معه، أحلى الضيع والمدن والقرى والبلدات اللبنانية.
من فوائد رحلتها مع حسام، الملتزم بالمواعيد، والمؤدب والمحترم، الاستماع إلى حكاياته مع بعض الزبائن، والاستماع إلى المواقف الغريبة التي قد يكون عايشها مع هذا الجمع الكبير من البشر.
«لعيونِك»، «محروسة»، «طوِّل بالك»، «حِلو الرواق»، «بحبك يا لبنان»، «شيل عينك»، «طلت الحلوة»، «مين أدك»، «شيل عيونَك»، «محروسة يا عروسة»، «يخزي العين»، «حبيبي زي القمر»، «ما شاء الله»، «ميْسِّرَة»، وغيرها ستظل عالقة في ذهني كلما قطعت الطريق من المصنع آتياً من دمشق إلى بيروت. سأحرص دوماً على تذكر الجمل والكلمات المسجلة عليها والممهورة بتوقيع يونس الذي لم يعد اسماً مجرداً.


خير ما ننهي به عرضنا هذا كلمات المربية خانم عامر خداج صاحبة مقدمة الكتاب: «من التقاليد الجميلة النادرة ما يكتب على معظم عربات النقل. تقليد شبه مشترك بين معظم مناطقه. يحوي مثلاً شعبياً قد يكون حكمة أو طرفة أو أغنية أو فكرة خطرت على بال صاحبها، تزينها رسوم جميلة تزيد المعنى غنىً، وأكثرها ما يكون لرد الحسد وحجب العين وإبعاد ضررها». وقد رأت خانم هذا المؤلف خير معبر عن هذا التقليد أو العادة، التي إن دلت على شيء، فإنها تدل على تعلق اللبناني بكل ما هو مفرح ينطوي في آن على معانٍ تهم معظم الناس.

* توقّع فلك الشوا كتابها «محروسة» اليوم (ابتداءً من السادسة مساء) في «موريس سلوم» (بناية أكاسيا، الطابق الأرضي ـ شارع بيدرو طراد - مقابل الـ «سوديكو سكوير»، بيروت). للاستعلام: 01/398830