تعرفت على أنسي في الوقت الذي تعرفت فيه على مجلة «شعر»، وعلى قصيدة النثر وعلى «لن»، وأذكُر أن أنسي الوسيم الأنيق لم يكن يشبه كثيراً «لن» ولا الجلبة التي أثارها كتابه، وأظن أن أنسي يومذاك سعى ليشبه كتابه. وبالطبع كان هذا الكتاب الذي لم يكن قابلاً للفهم، وكان يبدو مزروعاً بالأسنان الحادة، مستعداً للعضّ، دامساً بعربية مظلمة. هذا الكتاب اجتذبتنا إليه قصته وضجته واجتهدنا ما أمكن لنجعله سائغاً ومفهوماً، فهو كتاب تحميه وعورته كما تحميه استحالته. قرأنا «لن» أو أَشبهُ أننا قرأناه ولم يكن نصيب «الرأس المقطوع» نصيب «لن» من الضجة، لكنه كان صنوه في الوعورة، والأرجح أن الكتابين نالا من الضجة نصيباً لم يكن له ما يماثله في قراءتهما. بالتأكيد كان الكتابان المتأثران بالسريالية يلويان اللغة ليَّاً ويخبطان فيها. وبالتأكيد لم يلد الكتابان أبناء لهما لكنهما بقيا مع ذلك إلى الآن أيقونتين للخروج والصدام. كانا لغة قائمة بذاتها تبدو في غرابتها ووعورتها تحفة. كنا نحسب أن أنسي الذي ناضل عن «لن» سيخرج من هذه المعركة أشرس وأكثر صدامية لكن أنسي غلبَه نحوله وأناقته ويتمه المبكّر فلم يتمّ معاهدته مع الشيطان وخرج هذه المرة ليقاتل لعنته، فلم ينجز طوال حياته الشعرية أكثر من ست مجموعات شعرية وغيّر في كتابه الثالث لغته السديمية واستبدلها بلغة فورية قريبة من الحكي، لغة عذراء تتصدى لكل صنعة وتكمن بلاغتها في خروجها من البلاغة. في «ماضي الأيام الآتية» اخترع أنسي الحاج اللغة التي تحررت تقريباً من ماضيها اللغوي، من ثقل اللغة نفسها، لتستعير شعراً من حيث لا يطاوع الشعر، من الأفكار البحتة، من الحكي نفسه، من العري البلاغي، من الوضوح والانكشاف والبناء المباشر. بعد «ماضي الأيام الآتية» وتحديداً في «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» هبط الغناء على أنسي الحاج، لقد اكتشف مؤلف «لن» الذي يتخبط فيه الكلام بدون صوت وبدون إيقاع، اكتشف نعمة الغناء وتحول إلى مغن أوبرالي في حين، ومنشد في حين آخر، ورقيق توراتي في غيره. الغناء الذي تراءى للبعض أنه خيانة لقصيدة النثر كما صنعها في «لن» و«الرأس المقطوع» وثارت حول الكتاب هذه المرة ثورة مضادة. كان أنسي المغني يواجَه بأنسي المهشِّم، كما كان أنسي الشاعر يواجه بأنسي المدمدم، وكذلك كان أنسي الذي صنع لغة يواجه بأنسي محطم اللغة ومعتّمها: «قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت/ سوف يكون للجميع وقت فاصبروا/ اصبروا عليّ لأجمع نثري….كالشمس تدوس العنب/ كعنبٍ كالثدي/ كعنبٍ ترجع النار عليه». سار أنسي الذي لا يستقر على حال والذي يتغير مع كل كتاب في هذا الطريق الذي لم يخل من توبة وندامة ونوع من الاعتذار، فبعد كتابيه الفائتين عاد إلى غناء كنائسي، إلى البلاغة نفسها، إلى النثر الفني فكان كتابه «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» تجربة لم تميّز تماماً بين الخلق والاعتذار والتوبة فكأنه صدّق مخاوف منتقديه الذين توجسوا من أن تكون غنائيته الجديدة تراجعاً إلى النثر الفني وانقلاباً على القصيدة نفسها. لكن هذا لا يعني سوى أن تجربة جميلة دينامية حافلة بالانقلابات والتمردات على اللغة وعلى النفس وصلت إلى كمالها. لم يكن غريباً أن الشاعر الذي اهتدى في الشعر اهتدى أيضاً في الدين، فانتقل في الإيمان كما انتقل في الفصاحة. لقد تحوّلت التجربة الثقافية إلى تجربة ذاتية، واتّحدت الذات بالثقافة، ومن خلال هذه المكابدات كانت القصيدة تُصنع كما يُصنع الرَجُل، فعراك أنسي مع اللغة كان له من الشفافية ما يقترب كثيراً من عراكه مع نفسه، وكلاهما كان دائم الاحتدام. يتساءل أنسي في بعض خواطره: أما من دقيقة هدوء واحدة؟ أما من سلام للحظة؟ يدوس أنسي اللغة بداية إلى أن يطمسها، لكن يقين أنسي لم يكن في أي وقت ثابتاً، ما كان رجُل إيمان، وإيمانه حين يلوح يكون عامراً بالشك. ليس هذا عن إرادة فيه ولكن عن قلق مثابر لا ينفك وصدق مع نفسه لا ينفصل كثيراً عن فنّه، ويظل يسوقه من معركة إلى معركة. لدى أنسي ما يتعدّى الفن، لديه هذا الحلم بأن يكون الفن مفتاح الحقيقة، ولديه ما يتعثر به طالب الحقيقة من غوايات لا يلبث أن يستنفدها ليعود من جديد إلى صليبه. لا يمكن أن نروي فقط قصة أنسي مع الشعر، إنها أيضاً قصته الشخصية، كأن تكون قصته مع الإيمان. في «لن» و«الرأس المقطوع» كان أنسي الشاب يتبع السرياليين الملعونين الذين وصلوا إلى المصحّات العقلية، كان يهمّه بعد بروتون انتونان آرتو في عذابه مع المسرح واللغة ومعاناته النفسية والعقلية أكثر مما يعنيه السرياليون الأصحّاء. كانت السريالية بالنسبة له اختبار حياة ومشروعاً للسلب المطلق، وهو بالتأكيد لم يجد في الشعر سوى ارتطام باللغة وارتطام بالوجود وظَل طوال تجربته يرتجف من هذه اللعنة أو يثور عليها. لذا كان شعره الأول معركة مع اللغة تركت دماراً وحطاماً في الأكثر. لكن تجربة أنسي لم تكن خالصة للشعر. لم يكن الشعر بالنسبة له فناً فحسب، لم يكن جمالاً فقط. كان معاناة للوجود واتصالاً بالكينونة.
لذا لم يكن اهتداء أنسي وخروجه إلى الإيمان خالصاً أيضاً. لقد رمى نفسه على الإيمان وعلى الغناء وعلى الشعر كما رمى نفسه على الدمار وفي الحالين بقي عامراً بالشكوك. كان نصّه يتغير بتغير موقعه وتغير محله. المارق في ضيافة الإيمان، والمؤمن في حضانة المروق والمهتدي المارق، شعره كان يسير مع تحولاته. من لا إلى نعم، تحولات جذرية ترافقها تغيرات جذرية في الكتابة وقفز من لغة إلى لغة. مارق لكنّه أيضاً مهتدٍ ومغنٍ وفي الحالين شكاك وقَلِق ومعذَّب. لذا لا نستغرب إذا انتهت هذه المعاناة بالخروج من الشعر إلى كتابة قلِقة مباشرة في «خواتم» سريعة وخاطفة.

* شاعر وروائي