يعرفُ «السيّد» كيف يربح «معاركه» الإعلاميّة أيضاً. يعيد الرجل، في كلِّ مرّة، فرضَ نوع من توازنٍ إعلامي في «المواجهة» القائمة منذ سنوات بين مِحوَرَيْن سياسيَّيْن كبيرَيْن على مستوى المنطقة والعالم العربي. يَحسِبُ «أبو هادي» ومعه قيادة حزبه، مفاعيل «صمتٍ» كان قد طال هذه المرَّة لقرابة ثلاثة أشهر أو أقل بقليل. لكنّه يعرف أيضاً كيف يعود ليظهرَ في اللحظة المناسبة، وبتوقيته هو أوَّلاً وأخيراً، فتصبح الإطلالة حدثاً منتظراً بحدِّ ذاتها. «غريب أمر السيد حسن نصرالله، حين يتكلم يلفت الانتباه وحين يصمت يلفت الانتباه. حين يحضر يلفت الانتباه وحين يغيب يلفت الانتباه» على ما أوردت مُقدِّمة المقابلة «الاستثنائيّة» التي عرضت أول من أمس. وكـان على «الميادين» بتوقيت القدس وبيروت وعواصم أخرى، أن تكسب «الرِّهان» لتقدّم للمشاهد حواراً نوعيّاً مُتّخذة من«فضيلة الصمت» إيّاها عنواناً ترويجياً لـ«حوار العام» الذي حقّق رقماً قياسياً في نسبة المشاهدة كما في حجم التفاعل على منصَّات التواصل الاجتماعي (وصَل وَسْم #نصرالله_ يكسر_ الصمت إلى قرابة الـ 130 مليون حساب على مواقع التواصل).«قَطَفَتها» قناة «الميادين» إذاً. وبَرَع رئيس مجلس إدارتها الإعلامي غسّان بن جدّو في إدارة «دفّة» الحوار الذي يحمل رقم «19» في عدد مقابلاته مع «السيد» من بين مجموع الإطلالات التلفزيونية لنصرالله والتي لم يتجاوز عددها الأربعين مقابلة منذ انتخابه أميناً عاماً لحزب الله في عام 1992. بدا كلُّ شيءٍ مدروساً بعناية ومُعدَّاً بشكل جيد مِن أوّل كلمة في اللقاء حتّى شارة الختام.
«قصَّر» بن جدّو ،هذه المرّة، مِن زمن «المقدّمة» وظهر أكثر انسجاماً وتناغُماً مع «السيّد». «نحن هنا في مكان ما مِن لبنان مباشرة على الهواء». كانت هذه أوّل رسالة يجب إيصالها وهي ما أكّد عليها «السيد حسن» نفسه أكثر من مرّة من خلال إشارته إلى أحداث وقعت زمنياً قبل قليل من موعد المقابلة. ما يراه نصرالله «انكفاءً إعلامياً» (لأسباب شرحها) يضعه بن جدو في سياق المواجهة الإعلامية التي يجيد الرجُل استخدام «أدبياتها» وأدواتها ومفرداتها. «أحببنا أن لا نساعدهم (الإسرائيليّين) وأن لا نكون جزءاً من عمليّتهم الإعلامية الضخمة» يقول نصرالله. يعرف بن جدّو، هو الآخر، أنه مَعنيٌّ كوسيلة إعلامية غير محايدة، في تظهير «صورة مثاليَّة» للّقاء مع أحد أكثر الرجال تأثيراً في «محور المقاومة». يحرص بن جدّو على «الصورة» من دون أن يتنازل عن دوره الأساسي كمُحَاوِر مُحترِف ومُتمرِّس.
حقّق رقماً قياسياً في نسبة المشاهدة كما في حجم التفاعل على منصّات التواصل الاجتماعي


في المقابلة، ظهر بوضوح مدى التنسيق بين المُحاوِر والضيف من خلال تقسيم محاور وعناوين المقابلة، حتى إن نصرالله بدا حريصاً على الالتزام بـ «منهجيةٍ» ما برزت في الانتقال من محور إلى آخر. في «حوار العام» 2019، وعلى مدى ثلاث ساعات وخمس عشرة دقيقة، ظهر السيد حسن نصرالله هادئاً، حيويّاً، حازماً ومَرِحَاً في آن (مرَّر بضع كلمات باللغة الإنكليزية). تكلَّم في كلّ ما يريد قوله الآن عشيّة سلسلة إطلالات مرتقبة. بدا، كعادته، متابعاً لأدقّ التفاصيل والأحداث في المنطقة كما على «المسرح الدولي». مِن موقع «المنتَصِر»، وباسم «محور المقاومة» مجتمِعاً، وجّه التحذير الأقوى لرئيس وزراء العدو بأن «لا يخطئ التقدير». استفاض في عرضه لسياق الأحداث في الملف السوري كما في ملفّ الأنفاق الحدودية وعملية «درع الشمال». نصرالله البارعُ أصلاً في مخاطبة «الجمهور الإسرائيلي» منذ ما قبل حرب تموز 2006 ومـا بعدها، لم يفتْه أن يتوجّه إلى «الجمهور» إيّاه أكثر من مرة في سياق المقابلة: «هل ما زلتم تصدّقون قيادتكم في موضوع الأنفاق؟»، و«مصلحتكم هي في امتلاكنا للصورايخ الدقيقة» وغيرها. يلعب الرجل على وَتَر «الحالة النفسية» للمستوطنين الإسرائيليين مُستنداً إلى «سِجلٍّ» حافل له في هذا النوع من «الحروب». الحرب مع «إسرائيل»، كما يراها السيد نصرالله، هي «معركة عقول» أيضاً. «لدينا عقول أهمّ من عقولهم». هكذا، نجحت «الميادين» بجدارة في أن تصنع من «حوار العام» حدثاً إعلامياً تفاعليّاً، فضلاً عن كونه لقاء سياسياً مع شخصية من «الوزن الثقيل». حاول بن جدو، غير مرّة، تمرير ما أمكن من أسئلة «المغرِّدين» (بَذَل فريق الإعداد جهداً كبيراً في عملية انتقائها)، مُعيداً طرحها على ضيفه بصياغته الخاصّة. المقابلة، بما تضمَّنته من معلومات ووقائع وأسرار، تصلح لأن تكون وثيقة تاريخية سيتمُّ الرجوع إليها لاحقاً ومراراً. يمكن للقارئ الآن أن يتخيّل ذلك الصفِّ الطويل من الأعداء والأصدقاء الذين أمضوا «ليلة السبت» الماضي يتابعون السيد نصرالله في أُمسية «دَسِمة» من نوعٍ آخر أنهاها «السيد» بعبارة: «وخفّفتْ وزني كمان». تحدّث نصرالله عن كلّ شيء تقريباً إلا عن فنزويلا (سقطت سهواً أم عمداً؟). فات غسّان بن جدو أن يسأل «السيد» عن الآية القرآنية «أُدخلوها بسلام آمنين» المعلّقة على الجدار خلفه. لكن «حتى الجُدُر (الجدران) وجدنا لها حلاً»، قال نصرالله في «حوار العام»!