… في تلك الـ «ليلة في تونس»، انهال عبدالله ابن بوحَيْنة بالضرب بعَصَوَيْه على «زيلدجن» دون رحمة، حتى انزلق الأخير عن حمّالته عند الضربة السادسة، فأجهز عليه ابن بُحَيْنة، قبل أن يبتسم ويمسح عرقه.كم عرفت الموسيقى الغربية عموماً، والجاز وجذوره وفروعه وروافده خصوصاً، موسيقيين احترفوا العزف على الدرامز (الآلة الأساسية في ضبط الإيقاع في الموسيقى الشمال غربية / تتألف من طبول وصنوج)؟ كم شهد القرن العشرون ومطلع القرن الحالي أسماء مرموقة أو كبيرة في هذا المجال؟ بالمئات وربما بالآلاف. إنها مملكة بحد ذاتها وعلى عرشها تربّع رجلٌ وديع الملامح وحاد النظرة في آن واحد. إنه آرت بلايكي (1919 ــ 1990) الذي أعلى شأن الدرامز من مجرّد آلة تضبط الإيقاع وتتولى المرافقة، إلى شريك أساسي في فرق الجاز بالظهور والحضور ومساحة الارتجال وتحديد مسار ومزاج المقطوعة. معه أصبح الدرامِر (أي عازف الدرامْز) قائداً للفرقة وواجهتها أمام الجمهور وشركات التسجيل. مساهمته بالريبرتوار المسجّل في القرن العشرين تُعدّ من التركات التي لا تقدَّر بثمن، إن في النتاج الذي حمل توقيعه مع فرقته The Jazz Messengers («رُسُل الجاز»، وهي من الفرق الأكثر صموداً بتاريخ الجاز، إذ عملت لنحو 35 عاماً بين منتصف الخمسينيات وأواخر الثمانينيات) أو في مشاركاته الكثيرة إلى جانب أسماء كبيرة، سنذكر بعضاً منها في السياق. هذا الرجل، قارع الطبول الأسطورة، ومطلق كبار نجوم الجاز، وصانع المعجزات على آلةٍ أفقدته السمع الجزئي من شدّة الضرب عليها ولم يفقد عشقه الكلّي لها، ولد عام 1919… هذه السنة تصادف مئويته، وهذه تحيتنا له إحياءً لذكراه.



العين لا تخطئه… رأس مثلث الشكل، بشرة سوداء داكنة تضيئها أسنان ناصعة البياض ناتئة قليلاً وتمنح ابتسامة صاحبها شيئاً من براءة الطفولة. الأذن لا تخطئه… عزفٌ شديد الحدة والدقة، تقنيات جهنمية، إمساك فولاذي بسرعة الإيقاع، فواصل مفاجئة غاية في الذائقة، وكل ذلك دون صخب وضجيج على غرار عازفي الدرامز في موسيقى الروك (أو الروك الصاخب). إنه آرت بلايكي، المحارب الذي دافع عن آلته وعن الجاز وعن زملائه حتى الرمق الأخير، قارعاً طبوله غالباً في بدايات المقطوعات بطريقة توحي بأنه يقرع طبول الحرب بالمعنى الحقيقي لا المجازي. ولد في بنسيلفينيا (الولايات المتحدة الأميركية) عام 1919 وتلقى دروساً على البيانو في المدرسة، لكنه اجتهد فردياً ليبلغ مستوىً سمح له بالعزف في فرق صغيرة، قبل أن ينتقل إلى كرسي الدرامز، في الحانة التي كان يعمل فيها مطلع الثلاثينيات، تاركاً كرسي البيانو لعملاقٍ آخر هو إيرول غارنر. نحن في زمن الـ «سوينغ» الذي شكّل اهتمام بلايكي في بداياته، من خلال العزف في أكثر من فرقة شهيرة في تلك المرحلة. في منتصف الأربعينيات، «انشقّ» عن النفس التقليدي ليلاقي ديزي غيلّسبي وتشارلي باركر وثيلونيوس مونك وفاتس نافارو وآخرين (التقاهم في كنف بيغ-باند بيلي إكستين الشهير) في وضع أسس الجاز الحديث، لندخل في زمن الـ «بي بوب». لم يمضِ عقدٌ على ممارسة الـ «بي بوب» الذي أحدث ثورة في عالم الجاز، حتى شعر آرت بلايكي أن لآلته إمكانات أكبر من الهامش المعطى لها في الموسيقى عموماً، وأن لعازفها مكانة ودوراً أهم من المرافقة وضبط الإيقاع، فكانت النقلة من رحم الـ «بي بوب» إلى الـ «هارد بوب». في منتصف الطريق بين طرفَي الـ «بوب» (Bop)، قام بلايكي برحلة إلى أفريقيا واختبر إيقاعات أجداده وأصوات وتعقيدات هذه الإيقاعات، قبل أن يعود رسول الجاز إلى أميركا معتنقاً الإسلام (على غرار عدّة موسيقيي جاز) تحت اسم عبدالله ابن بُحَيْنة، تيمناً بالصحابي ابن ابنة عم رسول الله.



الـ «هارد بوب» تيارٌ ولِد مع ثلاثة عازفي درامز هم بلايكي وماكس روتش وكيني كلارك الذين لاقاهم عازفو بيانو وآلات نفخ لخلق نمط موسيقي حافظ على قواعد الـ «بي بوب» لكنه أعطى دوراً أكبر للدرامز وطعّم الموسيقى ببعض ملامح الغناء الأسود على رأسه الـ «ريذم أند بلوز». هنا أسس مع المؤلف وعازف البيانو هوراس سيلفر (الذي رحل عام 2014) فرقة The Jazz Messengers، التي ضمّت أسماء أصبحت لاحقاً أساطير في عالم الجاز. لكن سيلفر ما لبث أن ترك الفرقة ليطلق تجربته الخاصة ويترك القيادة، ولأول مرة في التاريخ من خلف الدرامز، لآرت بلايكي الذي باتت الفرقة تحمل اسمه أيضاً. بين منتصف الخمسينيات وأواخر الثمانينيات مرّ على هذه الفرقة نحو ثلاثين موسيقياً، انضمّوا هواة وتركوها نجوم قبل أن يكتبوا تاريخ الجاز في القرن العشرين، ولغاية اليوم: على الترومبت، مرّ على الفرقة الكبيران كيني دورهام وفريدي هابرد والـ «فانكي» دونالد بيرد والشعبي تشاك مانجيون والمأسوف على شبابهما كليفورد براون (26 سنة / حادث سير) ولي مورغن (33 سنة / مشكل تافه) وصولاً إلى حامل الراية اليوم وينتون مرسالِس وتيرينس بلانشار رافع مستوى موسيقى الأفلام في هوليوود (آخر أعماله موسيقى The Comedian الجميلة وموسيقى فيلم سبايك لي BlackkKlansman الذي فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان «كان» الأخير). على البيانو، المؤلف المرموق هوراس سيلفر طبعاً، وبعده أيضاً المؤلف الذي غادرنا باكراً بوبي تيمونز (مخلوق عظيم أرداه الكحول والهيرويين عن 33 عاماً)، ثم سيدر والتون والسوبر ستار كيث جاريت وغيرهم. على الساكسوفون (تينور)، الثلاثة الكبار عزفاً وتأليفاً هانك موبلي والشاهدَان الحيَّان بيني غولسون (1929) وواين شورتر (1933)، وغيرهم. كانت الأمور واضحة بالنسبة إلى آرت بلايكي: جسد الفرقة لا يعيش إلّا بدمٍ جديد في عروقه. هكذا كان يضم المواهب الصاعدة قبل أن يطلقها لتستقل بتجربتها فيستبدلها بأخرى صاعدة، وهكذا دواليك. غير أن التركيبة الأسطورية للفرقة تبقى تلك التي ضمّت عام 1960 إلى بلايكي، واين شورتر ولي مورغن وبوبي تيمونز وجيمي ميريت (كونترباص). مع ذلك لم تعرف الفرقة انحداراً في مستواها على مدى السنوات، وكان لها دور بارز في إشعال الرغبة في العمل لدى الموسيقيين الذين لم يستحسنوا الدخول في الموجات الجديدة (مثل الفيوجن الذي خاض بلايكي تجربته لكن دون حماسة منذ البداية وبطبيعة الحال دون نتيجة ذات أهمية في النهاية)، من خلال صموده أمام هذه الموجات وتمسّكه بالتقاليد القديمة ولكن مقاربتها بنَفَس جديد… ربما يعود الفضل إليه في وجود فرق اليوم تمارس وتسجّل الجاز التقليدي (أي ما كان اسمه جاز حديث منتصف القرن الماضي، ونقصد الـ «بي بوب»، آخر مدرسة في موسيقى الجاز، بحسب كثيرين من بينهم وينتون مرسالِس الذي أكدّها بثقة مطلقة في لقاء مع «الأخبار» بأبو ظبي عام 2010).



إلى جانب تسجيلاته الخاصة مع فرقته، عمل آرت بلايكي بكثير من التواضع كعازف درامز مع أسماء كبيرة ومغمورة، لكن مساهمته كانت دائماً قيمة. كما كانت له تجربة في السينما الفرنسية التي اهتمت كثيراً بالجاز منذ الخمسينيات، وتعاونت مع كبار الأسماء في حينها مثل آرت بلايكي وفرقته ومايلز دايفس وثيلونيوس مونك ودكستر غوردن وغيرهم.
أما الحادثة التي بدأنا بها المقالة، فقد حصلت خلال حفلة في بلجيكا عام 1958، حيث أدى بلايكي مع الفرقة تحفة ديزي غيلسبي الشهيرة A Night In Tunisia، وفيها يشارك بوبي تيمونز وبيني غولسون ولي مورغن في العزف على آلات قرعية إلى جانب آلاتهم الأساسية، وفي الختام يكرّر بلايكي ضرباتٍ قوية على أحد صنوج الـZildjian الذي ينزلق بشكل مفاجئ، لكن آرت يتابع العزف لينهي واحدة من أجمل التسجيلات لهذه المقطوعة التي نُشِرَت عام 2006 بعدما ضاع لنحو نصف قرن أثرها الموثّق بالصوت والصورة… أمّا آرت فقد رحل، بالصورة فقط، عام 1990.








تسجيلات

’Moanin


ليس بالأمر السهل حصر آرت بلايكي بستة إصدارات. لكن ما نقترحه يعطي فكرة وافية عن مساهمة الرجل في الجاز. نبدأ بـ `Moanin (1958) الذي يحمل اسم مقطوعة من تأليف عازف البيانو في فرقة بلايكي، بوبي تيمونز، علماً أن معظم محتواه من تأليف عازف الساكسوفون بيني غولسون. أعطى هذا العمل دفعاً قوياً لشهرة بلايكي وفرقته وتلته حفلات في أميركا وخارجها.

Live In ‘58


أقيمت هذه الحفلة في بلجيكا عام 1958 لكنها ضاعت لنحو نصف قرن قبل أن تُنشَر لأول مرة عام 2006. إنه شريط بالأسود والأبيض للحظات تاريخية كدنا نخسرها إلى الأبد. يحوي التسجيل مجموعة من الأعمال الخاصة بفرقة بلايكي بالإضافة إلى كلاسيكيات، أبرزها A Night In Tunisia التي أعطت اسمها للألبوم الذي أصدرته الفرقة بعد سنتين.

Au club St. Germain


أشرنا في المقالة أعلاه إلتى علاقة الجاز بالسينما الفرنسية. في الواقع هذا التعاون تلى (أو تزامن مع) استضافة فرق جاز للعزف في النوادي الفرنسية، ومن بينها نادي «سان جيرمان» الذي قدّم فيه بلايكي وفرقته عدة أمسيات صدرت بثلاثة أجزاء وحوَت كلاسيكيات الفرقة، علماً أن كيني كلارك يحل محلّ بلايكي في القسم الثاني من الجزء الثالث، وقد حاز التسجيل جائزة «شارل كرو» لعام 1959.

Lee-Way


ننتقل هنا إلى مساهمة آرت بلايكي في ألبومات خاصة بأعضاء فرقته. الألبوم الأول هو لعازف الترومبت في الفرقة لي مورغن، الذي استضاف «قائده» في هذا التسجيل إلى جانب جاكي ماكلين (ألتو ساكس) وزميله بوبي تيمونز (بيانو) وأسطورة الكونترباص بول تشايمبرز. صدر هذا العمل عام 1960 عند الناشر العريق Blue Note.

Soul Station


… أما الثاني فهو لعازف الساكسوفون في فرقة بلايكي، هانك موبلي، الذي يعتبر ألبومه هذا من كلاسيكيات الديسكوغرافيا، وتحديداً في الـ «هارد بوب» والـ «سول جاز»، النمط الذي ساهم في إرسائه إلى جانب بوبي تيمونز. معظم المقطوعات من تأليف موبلي، ويشارك في تنفيذه بالإضافة إلى «المعلّم» على الدامز، وينتون كيلي (بيانو) وبول تشايمبرز أيضاً وأيضاً.

Somethin’ Else


يقع هذا الخيار في خانة مساهمة آرت بلايكي خارج فرقته أو خارج مشاريع أعضاء فرقته. كل من يسمع جاز يعرف أن Somethin’ Else (1958) مصنَّف بين أهم عشر ديسكات في نمطه. العمل هو لعازف الآلتو ساكس الكبير كاننبول أدرلي، وتلتقي فيه قمم الأداء بين مايلز دايفس (ترومبت) وهانك جونز (بيانو) وسام جونز (كونترباص)، تزينهم طبعاً مساهمة بلايكي.