إذا كان للتعاون بين المؤلف الموسيقي والملحن مرسيل خليفة والسوبرانو الفنانة عبير نعمة أن يستمرّ ويتطوّر، مستحدثاً حيّزاً فنياً جديداً ومميزاً، فإن بداية هذا التعاون ستكون صعبة نوعاً ما. وككلّ بداية، هو يحتاج إلى وقت كي يرسّخ في أُذن الذائقة حساسيته الجديدة وخصوصيته الثنائية التي نستمع إليها في ألبومهما المشترك «غنّي قليلاً». أسباب هذه الصعوبات كثيرة، وسيكون مطلوباً مواجهتها لتذليلها فنياً في وجدان الذائقة اللبنانية والعربية وربما العالمية لاحقاً! وهذا ما لم يكن في حسبان من كان ينتظر ظهور العمل الجديد الأوّل الذي جمعهما أخيراً ويحوي ١٤ أغنية متعدّدة الأجواء. تحتّم علينا الموضوعية كذائقة أن نفرّق بين تقييم هذه الأغاني موسيقياً ولحنياً وانسجام عناصرها كوحدة فنية (وهو ما يتمتع به هذا العمل بصدق وثراء)، وبين أن نقيّم ثمرة تعاون جديد بين فنانين، حيث لن يكون هذا العمل في منأى عن تأثيرات ارتداديّة لحنية تحيل ارتباطاتها النغميّة بذاكرة صوت المغنية أميمة الخليل! سبب هذه الظاهرة، ارتباط البصمة اللحنيّة لمرسيل بالبصمة الصوتيّة لأميمة في ذاكرة المستمع المتابع لأعمال الثنائي خليفة – الخليل السابقة. ماذا سيرتّب هذا إذن على عبير نعمة إذا كان لهذا التعاون الجديد لها مع خليفة أن يستمر ويرتقي؟ سيرتب عليهما أموراً كثيرة ليس أوّلها مراكمة ريبيرتوار غنائي جديد، ولن يكون آخرها ضرورة خلق بصمة صوتية ولحنية جديدة مختلفة نوعاً وكماً. إذا وضعنا هذه الهواجس جانباً وتركناها للزمن ولأصحاب الشأن، سيكون صعباً علينا أن نكتب عن عملهما الأوّل بعيداً عن الحضور الذي يذكر الذائقة ولو عاطفياً بصوت أميمة الخليل الغائب الحاضر شئنا أو أبينا. نقول هذا عارفين بالاختلافات الكثيرة التي تفصل فنياً وأكاديمياً بين صوت أميمة الطفولي الخافت الحالم والحنون، وصوت عبير الواسع القوي المتمرّس بشرقية الأنثى الناضجة المكتملة، وغربية تقنيات السوبرانو كولوراتورا المحترف والفذ الذي قد يُعَد أحد أهم خمسة أصوات في لبنان أكاديمياً.
عبير نعمة ومرسيل خليفة

ألبوم «غنّي قليلاً» عمل غني متعدد الأجواء. كان من الأفضل له أن يتوزّع على قرصين بدل أن يدمج في أسطوانة واحدة! نجد مقطوعات موسيقية سابقة معروفة ومنتشرة يستعيد مرسيل بعضها بذكاء وبتوزيع للمرة الثالثة («الحنّة» مثلاً)، وبعضها كتبت لها مقاطع تحمل تواقيع شعراء معروفين لتحويلها إلى الغناء. هذا ما قد يقلّل أحياناً من قيمتها الموسيقية إن كان الكلام فضفاضاً وغير متوازٍ تعبيرياً مع اللحن، أو بالعكس، قد يزيد من ثراء القيمة الموسيقية حين يتلبّس اللحن شعرية الكلام الجديد مستضيئاً بقيمته التعبيرية ونبضه الشعري المتوازي مع النبض الموسيقي الأصلي.

«الموسيقى»
ربما كان مرسيل قد تعمّد أن يفتتح الشريط بأغنية «الموسيقى» لأنّها تحاكي برمزية ما تأويلاً موسيقياً لشريط حياته. كذلك فإنه اختار نصاً شعرياً لصديقه الشاعر البحريني قاسم حداد الذي يبدو أنه فهم ارتباط المعنى والمجاز في التعبير الفني المزدوج، ليتلقفه مرسيل موسيقياً على مقام الحجاز على درجة الحسيني (LA) بنوستالجية شرقية الروح مفتوحة على التأمل بأجواء المينور (LA Minor). لذلك، ربما تعمد مرسيل أن يبقي على صوته ككونتراست يعمّق صوت عبير لناحية التعبير الفني المجازي، رغم اعتقادنا أنه كان من الأفضل فنيّاً ترك الغناء لعبير فقط لأنها من الأغنيات القليلة التي لم تذكّر أبداً في بصمتها الصوتية لحنياً بغنائية صوت أميمة. إذ وصل فيها صوت عبير تعبيرياً إلى ما يوازي أجواء الصلاة في عمقها اللحني كما لو أنها ترتّل في معبد أو كنيسة بخشوع رقيق، لكنه يمتدّ إلى رحابة مقامية لا تخشى المسافات في الديناميكس الصوتي بين المسافات المتباعدة. هكذا، استدرج صوت مرسيل وبصمته اللحنية شيئاً من أجوائه مع أميمة! حبذا لو تركها مرسيل مرسلة بصوت عبير، لكانت قد دخلت ريبيرتوارهما الجديد فوراً كأول أغنية محايدة البصمة تضع أساساً لهذا التعاون.

«مزمار»
«مزمار» موشّح يعيده مرسيل للمرّة الثالثة من ريبيرتواره القديم، مبنياً على نظام السماعي الثقيل بنبض عشرة على ثمانية. به يروي الغصّة العربية التي ما زلنا نحياها ونحن نتذكر عزّنا المفقود في الأندلس الموسيقي الذي بناه صاحب الكونسرفتوار الأوّل في العالم زرياب الذي لم تتسع له بغداد في عزّ نهضتها الثقافية والفكرية العباسية في عهد الأمين، إذ طرده إسحاق الموصللي غيرةً وحقداً من بغداد، بعدما هدده بالقتل إذا قرر البقاء فيها معه! اللافت أن مرسيل أخذ النص الصغير والرائع للشاعرة الأفغانية زهراء زاهدي، بترجمته العربية التي أنجزتها الشاعرة الإيرانية مريم حيدري. يقول النص: «أنحت مزماراً من عظامي/ يغني اشتياقك من أصابعي/ أفتح زراً لقميصك/ ليفتح ويسد ثوب الكينونة!». وهل أجمل وأبلغ وأرقى من أبيات كهذه وهي تشي بما قل ودل من جماليات المعنى والرمز؟!

«راجع»
تشي الأجواء الموسيقية لـ «راجع» بالشوق والترقّب لأمر جلل قادم من بعيد ينسجه الشاعر طلال حيدر. تمهّد له الموسيقى بتقاسيم حزينة على التشيللو، قبل أن تنتقل بقيّة الآلات من هويّة الحزن الموسيقية إلى أجواء أُخرى شاعرية كأنها تسعى إلى تصوير لقاء عشّاق يضيئون ظلام الليل على أصوات الفرح بالوصول واللقاء المشغولين موسيقياً على نغمات مقام «مي بيمول مايجور» (Mi bémol majeur). نغمات تتصل بمنسوب عريض من أجواء الفرح المفتوح على شيء يقارب الجاز، وكأن الأوركسترا تحوّلت لهنيهات قليلة في النهاية إلى «بيغ باند» لتقفل على نهاية كلاسيكية بأسلوب تفكير سيمفوني تقليدي. هذا ما يعطي هذه الأغنية بعداً ورونقاً جمالياً بتعدد نقلاتها التي تحاول التفلّت إلى آفاق جمالية متعددة في فترة قصيرة نسبياً.

«هيدا إنت»
أجواء لحنية شرقية عرفت بذكاء كيف تجسّد معنى قصيدة الشاعر جرمانوس جرمانوس باحتفالية طربية خطفت أضواءها آلة البزق والعوْدُ والإيقاعات التي تعاونت على تجسيد رائع لنغمات تقاسمها مقاما الكورد والحجاز ليدخل عليهما سحر مقام البيّات على الـ LA بتلقائيته المحببة. قد تكون من أكثر الأغنيات التي جسّدت فيها هذه المقامات روح الكلمة الشعرية ومناخ الشرق بذكاء المؤلف والملحن وبراعتهما. وأعتقد أن الناس سيحبون هذه الأغنية لأنها تحمل البصمة اللحنية للحن مرسيل وصوت اميمة، حيث يتهيأ للسامع في لحظات هاربة كأن أميمة هي التي تغني، وسيكون من العبث محاولة ألّا نذكر هذا لطراوته وشفافيته وسهولته التي استنبطها مرسيل من أجواء السهل الممتنع المفتوحة على الشرقي الممتع بالطرب والطلاوة!

«ما أجمل الحب»
في «ما أجمل الحب» أجواء طربية دافئة وأصيلة تتطوّر فيها الجملة اللحنية بجماليات متعددة الآفاق بتثوير اللحن طوراً بالتوزيع، وبالقُطَبْ الهارمونية الشرقية المخفية بآلات العود والبزق والكمنجة الإيرانية والإيقاعات والصوت عموماً، وبالبزق خصوصاً الذي يشرق بشخصية مميزة صوتياً تحاكي خلجات الطرب. نستمع إلى ذلك بعد الدقيقة الرابعة حتى الرابعة وعشرين ثانية، وفي أماكن أخرى، كلّها مشغولة على أنغام مقام الراست بأفكار أصيلة متطورة تعبّر عن روح الثيمة الشعرية للوردة التي تقطع الحدود بين الفرح والحزن، والحياة والموت، وأضرحة الشهداء واللقاء والفراق حيث للوردة وجودها المزدوج في النص الذي كتبه الشاعر زاهي وهبي.
يعيد مرسيل استعراض قدراته في التوزيع الأوركسترالي في أغنية «الحنّة»

علّ من المثير أن نذكر أن هذه الأغنية تذكّر بأغنية «مرّ القطار» لخليفة، وتلتقي معها في المقام على ما نذكر. لذلك، فالبصمة اللحنية والصوتية قد تناسب هنا أيضاً غناء أميمة لولا بعض الأماكن التي أبدعت فيها عبير برحابة الصوت ومرونته عند مفترق الطبقات العالية، كما في الدقيقة الخامسة وعشرة ثوانٍ أو عند اللف بقوّة واستمرارية بالحركة الدائرية للحن عند «يا الله» قبل كلمات «للحياة والردى» في النص.

«بعتلك صوتي»
تدخل «بعتلك صوتي» فوراً في أجواء احتفالية على إيقاع مربّع ومناخات مقام الماجور الفرحة، وتحديداً على Do major ليتوازى مع نص الشاعر هنري زغيب. ينجح مرسيل بذكاء موسيقي في التعبير عن سرّ الاحتفالية الشعرية بتلقائية السهل الممتنع بواسطة الأكورديون والفلوت والكلارينت والكمان والإيقاع، وبخلطة لحنية وأجواء هارمونية لا تساوم على جماليات التأويل الموسيقي لما يربط الكلمة بالنغمة من أسرار ومعادلات يعرف مرسيل كيف يصطادها.

«اكتبني قصيدة»
كتب الشاعر حبيب يونس «اكتبني قصيدة» التي دخلها مرسيل بسهولة العارف لرمزية مكنوناتها الشعرية. يحتفل بها موسيقياً بالأوركسترا والطبلة على مقام العجم على الدو، وعلى إيقاع المصمودي المفتوح على الفرح والرقص... كل ذلك يجري بلا تمييز لآلة معينة من الأوركسترا باستثناء الطبلة التي تبقى تزف القصيدة على معانيها الغزلية الراقية حيث يجتمع الحب بالجسد والأعراس. قد تكون هذه الأغنية وما سبقها («بعتلك صوتي») من أكثر أغاني الشريط التي ستدخل قلوب الناس بسهولة.

«طفولة»
«طفولة» هي إحدى أجمل المقطوعات الموسيقية في أعمال مرسيل السابقة. كتب لها الفنان المسرحي ميشال أبو رجيلي كلمات مشبعة بروح الحنين لماضٍ جميل نفتقده موسيقياً. على مقام الكورد على اللا وعلى إيقاع مربع، تتفاعل الألحان بتنويع لحني تتناوب عليه آلة الفيبرافون والأبوا والوتريات والغناء لتصل إلى مستقرها في القرار الذي ترسو عليه كلمات القصيدة لحنياً. الأغنية كانت جميلة لصوت عبير ببصمة مرسيل اللحنية التي نادراً ما لا تجد لها صدى كبيراً في صوت أميمة.

«علّليني»
قد يكون موشّح «علّليني» من أجمل مقاربات مرسيل خليفة للدخول إلى عالم الموشحات، متوسلاً الفخامة الأوركسترالية في التوزيع الذي يقارب بذكاء الأسلوب السيمفوني في سعيه إلى بناء عالم بوليفوني مقتصد يبتعد عن الثرثرة والإطالة. وبذلك يكون قد قارب السهل الممتنع بقصيدة جميلة من الشعر النبطي، حيث يدخل به بانفتاح داخلي على التعبير بمقام النهوند مع دور مميز لآلة الرق ممتلئ بالتلقائية والغِنى دون أي تكلف أو تصنُّع. يسير الرقّ بزهو بين آلات الأوركسترا السيمفونية، كأنه آلة أساسية تقول أشياءها وروحها بكفاءة وموهبة وثراء، حيث لا تملك الأوركسترا إلا أن تنحني لسرّه وتتسع لجماليات إيقاعه الداخلي. قد يكون هذا الموشح أكثر أغاني العمل قدرة على إعطاء المبررات الفنية لسعة صوت عبير وامتداده برحابة وثراء كسوبرانو ناضج بديناميكية يسير عبرها بين مسافات الإنترفالات، سواء وهي تبتعد عن بعضها وتقترب. نستمع إلى هذا عند الدقيقة 3,54 إلى الدقيقة 4,07، وعند غناء الآهات بالسوبرانو العالي أو الأماكن الأخرى التي لا تساوم فيها عبير بسرّ صوتها على التعبير بسعة الصرخات الواعدة بالامتلاء اللوني للسوبرانو.

ترتيلة «مريم البكر»
أعاد مرسيل بناء الترتيلة السريانية الأشهر في لبنان وسوريا «مريم البكر» بشكل يختلف موسيقياً عن شكلها اللحني القديم. تنبض الترتيلة على إيقاع الفوكس بشكل جريء وبناء يختلف عن المألوف في التراتيل الكنسية المارونية ولا يشبه الشكل الأوّل إلا بالجملة اللحنية الأساسية التي اجتهد مرسيل بتركيب جديد لها. تركيب ينبض على النهوند بأسلوب نغمي، استخدم فيه الوتريات والفلوت والكلارينت، حيث تعمد أن تنبض بأسلوب البيتزيكاتو عند مفترقات توزيعه لجملها. نعتقد أنه تعمّد إعطاءها لعبير لأن البصمة اللحنية والغنائية فيها جديدة، كذلك فإنها بحاجة إلى سعة صوتية ممتلئة بامتدادات صوت عبير التي نجد لها على اليوتيوب نسخاً عدة أبدعت بأدائها ترتيلاً وأناقة ومرونة صعوداً ونزولاً وقفزاً بين المسافات المتباعدة.

«الحنّة» و«يا محلا نورها»
للمرة الثالثة يعيد مرسيل استعراض قدراته في التوزيع الأوركسترالي في أغنية «الحنّة» الشعبية المصرية التي رفعها من أجوائها الشعبية القديمة إلى آفاق متقدمة بالثراء الأوركسترالي. ثراء يتوسّل أسلوب التفكير السيمفوني بمهارة على إنترفالات مقام الحجاز المفتوح على القوة والفخامة، مضفياً عليها عالميّة لا تُحد بمحلية ما... بل تصبح عالمية بقوّة محليتها الغنيّة. إن إعطاء هذه الأغنية لصوت عبير، مع أغنية «يا محلا نورها» لسيد درويش على مقام ري ماجور الفرِح ينمّ عن ذكاء، وله ما يبرره موسيقياً ولحنياً، وقد أثبت هذا أداء عبير المميّز لهما.

«فكر بغيرك»
تحمل «فكر بغيرك» توقيع محمود درويش التوأم الفني لمرسيل خليفة. ها هو مرسيل يقارب القصيدة على مقام Si bémol majeur، وفيها جملة أساسية تتردد بين «الريفران» وتتفاعل سائرة إلى نهايتها في الذروة اللحنية على مقام الكورد على اللا.

«غني قليلاً»
قد تكون «غني قليلاً» أقوى أغنيات العمل، خصوصاً في استقطابها لتوازن ما بين التلحين المفتوح، والمعقلن في الوقت نفسه بالتأليف الذي يبني نسيجاً بوليفونياً يستنهض آفاقاً من التوزيع الأوركسترالي المتوازن. توزيع يحاول أن يطوي النص الشعري للشاعر الكبير الراحل جوزيف حرب بين روحه الشرقيّة، وروحه الغربيّة في توزيعه على الأوركسترا والصوت. هناك شبه بين هذه الأغنية وأغنية «يا طيور» التي كتبها الفنان المصري الراحل محمد القصبجي لأسمهان. وبعيداً عن المقارنات، أدت عبير هذه الأغنية الجميلة باستيعاب للمكنونات الصوتية الواسعة التي تختزنها لحنياً، وللأداء الغربي المعقد والصعب تقنياً. لم يختتم مرسيل الألبوم الجميل بهذه الأغنية عبثاً، كأنه يريد أن يقول إن تعاونه مع عبير له الكثير مما يبرره فنياً وصوتياً وتقنياً وأكاديمياً. أما عمله المقبل مع أميمة الخليل، فيأتي ليؤكّد أنه مستمر بالتعاون معها، وأن الصوتين قادران على التمايز والاستمرار لإيجاد مكانهما المناسب في ريبيرتواره الغنائي الموسيقي.