ربما كان يوسف عبدلكي أحد الفنانين السوريين القلائل الذي كسر كل المسافات الفاصلة بين الأجيال، بدءاً من الثمانينيات، وصولاً إلى الانتفاضة والحرب. لم يكن الشبّان والشابات الذين ولدوا في الثمانينيات بحاجة إلى إعادة تعريف ذاكرتهم الجمعيّة، أو حتى ضبط إيقاع أحلامهم ليعرفوا ما حدث خلال الثمانينيات القاسية، وما سيحدث في الغد.
كان يوسف البوصلة التي لم تضطرب يوماً. لم يعرف جيل الانتفاضة الموؤودة يوسف عبدلكي عبر أحصنته الشهيرة، بل كان الصهيل هو صلة الوصل الوحيدة بين جيلين مجهولين: جيل الآباء وصخب اليسار، وجيل الأبناء ونقرات «الكيبورد». انتقل الصهيل بخفوت عبر أغنية سميح شقير الشهيرة «بغرفة صغيرة وحنونة»، وبدرجة أقل (وإن كانت أكثر لوعة) عبر قصة «الصناديق» للمبدع إبراهيم صموئيل (1951) في مجموعته المذهلة «رائحة الخطو الثقيل» (1988). بدأت علاقة يوسف بأبنائه الكثيرين عبر تلك المفردات المتناثرة والمهملة، وعبر «صور ع الحيطان بتحكي» ترمّم تلك المسافة التي اختنقت تحت ركام الأحذية العسكرية. في المقابل، لم يكن يوسف بحاجة إلى تغيير أدواته لتتلاءم مع عصر الفايسبوك. كانت لوحاته ـــ المفعمة بذلك الصمت الصارخ والمؤلم ـــ تتطور تلقائياً محافظةً على ألقها الفريد. استُبدلت الأحصنة والصناديق بجثث الأسماك والطيور وبالجماجم، فيما بقيت العيون المفتوحة على الرعب واللوعة مثل راية أخيرة لتلك الطبيعة «غير الصامتة» التي أصبحت الإدمان الجديد ليوسف عبدلكي في السنوات الأخيرة. أما في سنوات الانتفاضة، فقد بدأت الأجساد البشرية بالظهور بغزارة غير معهودة لدى الفنان الذي اشتهر برسم الرؤوس المقطوعة. قد يكون هذا التحول إشارة إلى تراكم اليأس عند يوسف، إذ لا معنى للجسد (ولو كان موجوداً وكاملاً) من دون حصيلة الذكريات والأحلام التي تسللت هاربة من تلك الرؤوس المقطوعة أيام الثمانينيات والتسعينيات. وبصرف النظر عن تلك الدلالات المتجددة والمتعددة في أعمال عبدلكي الأخيرة، أو الألوان (الأحمر بشكل خاص) التي انسلّت بخجل إلى الثنائية المديدة للأسود والأبيض، يمكن ملاحظة أنّ العيون بقيت ذاتها؛ جامدة، قاسية، اتّهامية، مرعبة، ومفتوحة على آفاق غامضة لغدٍ أشد غموضاً.
ثمة ملاحظة أخرى قد تبدو غريبة للوهلة الأولى ضمن السياق السوري خلال الانتفاضة. بقي يوسف وحده بعيداً عن الاستقطابات السياسية الحادة بين الشباب السوري. ورغم وجوده في «هيئة التنسيق الوطنيّة» (بكل تناقضاتها والجدالات المتعلقة بها)، بقي رمزاً مشتركاً بين جميع شباب الانتفاضة تقريباً. وعلى عكس ما يظنه المرء، لم يكن السبب هو الفصل بين الفن والسياسة، فأكثر ما يميّز عبدلكي هو انغماسه اليومي في السياسة، وغياب تلك «الطهرانيّة الزائفة» في أعماله الموغلة في أعماق المأساة السورية. هذا الاندماج بين الفن والسياسة هو ما جعل يوسف وأعماله علامة فارقة في الحياة السورية، وعند الجيل الجديد من السوريين الذين توارثوا حتميّة البحث عن رمز مشترك بين الجميع. لا نعلم ما الذي سيتولّد عن معرض عبدلكي في بيروت، لكننا متيقّنون من أن هذا الفنان الذي رفض الجنسية الفرنسية، رغم السنوات التي قضاها منفياً (أو «في حالة انتظار» كما يؤكد دوماً) في باريس، لا يزال يملك الكثير في جعبته وصناديقه المتجددة في هذه الأيام السورية الجديدة، أيام اللهاث والتعلق بأي منفى بعيداً عن لهيب الجحيم السوري بكل تناقضاته وخوائه وصمته الثقيل الذي لا يكسره أيّ صهيل.