طيور عُجنت من حرية وأمل، وانتماءٍ إنساني صارخ للطبيعة الأم. استراحت اليوم تحت سقف «غاليري أجيال»، محطة انتقالية بين رحلات الطير اللامتناهية. طيور سمعان خوام أعلنت بيانها، ثارت، وطارت من حدود المساحة المسطحة إلى الفضاء الثلاثي الأبعاد. فعاجنها متمردٌ على كل عرف وتقليد، كيف إذن لا تحمل هذه الطيور رسائله للكون... حريةً وأملاً؟!ليس سمعان من الفنانين المبتدئين، بل ممن خاضوا غمار التجربة التشكيلية منذ عقدين من الزمن، صابّاً كامل عاطفته في كائناته الطائرة على الورق أو القماش وغيرهما. ولكن معرضه الجديد Birdman أظهر لنا سمعان خوام جديداً. سمعان خوام النحات الذي يشكّل بالابعاد الثلاثة عوالم طيوره الفريدة والحرة.
من المعرض

هنا تستحضر الذاكرة البصرية، بعضاً من طيور ماتيس، ورموز ميرو... وحتى بعض أعمال كادلر، فالمشهد إبداعي ومدهش بامتياز. مَن كان ليصدّق أن هذه الكائنات التي كانت بالأمس غارقة تحت سطح اللوحة، ستطير؟! حرة في الفضاء الطلق، تحط الرحال في مسارح الفن، رسالةً من مواطن فنان أراد أن ينقذ وطنه من ذاته وبذاته... أن يترجم شغفه بالكون والأرض التي تحمله والكائنات التي تتشارك معه الدنيا، إلى فن خالص، هادف. وليس على حساب التقنية، بل عبر سبر غور أكثرها صعوبةً، أي التشكيل الثلاثي الأبعاد!
يعيد سمعان خوام بدايةً تكوين هذه الأعمال الفنية إلى رغبته بعدم رمي النفايات، خاصة بعد تفاقم الأزمة اللبنانية مع عدم التدوير والفرز، ثم تراكم النفايات من دون حلول مباشرة. بقرار صادق وجذري، قرّر أن لا يترك أي أثر للمواد التي يستخدمها تهشّم بيئته ووطنه، وحاول أن يكوّن بها كائنات، سرعان ما تبيّنت هويتها، فإذا بها الطيور ذاتها التي كان يرسمها على الورق والأسطح المختلفة. يعود خوام بالذاكرة إلى أيام طفولته، ويسرّ لـ «الأخبار»، أنه عند تركيبه هذه الأعمال، عادت له متعة اللعب بالليغو، وعاد صغيراً. وهنا أيضاً من طفولة خوام سرّ يبوح به صاحب «غاليري أجيال» صالح بركات، نفهم عبره لمَ هذه الكائنات هي «طيور». يقول لنا: «ذهبتُ مرة عند سمعان ليريني لوحاته، وهو في الأساس رسام وكاتب. واذا بي أجد عصفوراً ثلاثي الابعاد، فسألته عنه. أجابني أنّه كمواطن صالح، وعندما تفاقمت أزمة النفايات في لبنان، استثقل على ذاته أن يزيد النفايات، فصار يحاول إعادة تدويرها صانعاً منها أشكالاً ما، وكان أن ضمّد بعضها بـpob bandage وكوّن منها عصفوراً. لماذا؟ لأنه في طفولته الباكرة، كان يذهب مع والده إلى الصيد، فيشعر بالذنب الشديد كلما تصيّدا العصافير، لأنها كائنات تشكل منقذاً لروح الانسان».


اذاً هي طيور رسمها سمعان دوماً، ليعيد إحياءها، أو يخلد ذكراها. وهو اليوم يعيدها ثلاثية الابعاد منتعشة تحت سقف «غاليري أجيال». لكن متى بدأ فعلياً التحضير للمعرض؟ يجيبنا خوام: «الحقيقة أنه لم يبدأ إطلاقاً كمعرض، وانما بدأ مع تفاقم أزمة النفايات في بيروت عام 2011. كنا نحاول العمل على إعادة التدوير، وكذلك كان مشروع نظافة شخصية. وعندما فشلنا كمجتمع مدني في صنع تغيير فعلي في البلد، تابعت العمل على هذا الملف ذاتياً وضمن الاطار الشخصي، والفردي. طبعاً يمكننا أن نقول إنّ هذا ليس إعادة تدوير صحيحة، لكن ما كان يهمني في الاساس أن لا تذهب نفاياتي لا الى البحر ولا الى المطامر! وفعلياً في عام 2014، بدأت هذه العملية الشخصية. طبعاً المواد العضوية أدوّرها لأنني أزرع. لكن المشكل الأساسي كان مع البلاستيك والبطاريات وغيرهما. لذا الاعمال هنا هي في الأغلب من البلاستيك المتبقي لدي، وأعقاب السجائر، وتوبات الالوان. أحاول عدم رمي أي شي، ما عدا التنك والزجاج لأنّ هذه المواد تذهب لإعادة التدوير».
كي يعطي سمعان خوام الهيئة النهائية لكائناته، طيوراً كانت أم للشخص الذي يرافق رحلة الطيور، استخدم pob bandage للفّ كل هذه المهملات، ثم استعان بالجفصين لاكمال بنيان المنحوتة الثلاثية الابعاد، أو حتى الباطون.


منها ما حاول أن يلوّنه بالاكريليك، لكن معظمها إما طُلي باللون الأكريليكي الأسود أو بالأبيض. وما كان من الباطون، تركَه على لونه. يشرح لنا سبب هذه الخيارات اللونية، قائلاً: «الأبيض والأسود هما اليين واليانغ. في الحياة يكونان معاً. هناك شرّ وخير. لا وجود لأحدهما من دون الثاني. أما الباطون بالنسبة الي، فهو مرآة المدينة».
الفكرة إذا هي بحسب سمعان خوام «أنّنا من النفايات نعيد خلق شيء جديد، وأنّ هناك أملاً. وبهذا، لا نخترع شيئاً جديداً. في الواقع هذه المهملات هي أموال. في البلدان المتقدمة، يتم شراء النفايات لإعادة تدويرها واستثمارها! بعض البلدان تستورد النفايات لهذا السبب. ورسالتي هنا لكل الناس: رجاءً اعملوا على إعادة التدوير! نعم أنا أؤمن بأنّ الحل في المدارس ومع الأطفال، لكن هذا لا يمنع أن تكون هناك مبادرات شخصية على مستوى أكبر. لا أدّعي أنّ هذا هو الحل، لكنه بداية، أن نعوّد أنفسنا على إعادة التدوير.
يعزو تكوين هذه الأعمال الفنية إلى رغبته بعدم رمي النفايات

وهنا أقول: نعم هناك أمل، وهناك أمل كبير في الوصول إلى الحلول وعلى كافة المستويات». يقولها بتفاؤل فريد، يعكس شخصه. والمعرض كذلك، ففي الحقيقة عنوان المعرض «الرجل العصفور» هو بورتريه ذاتي للفنان، وهذا المعرض هو عنه ومنه! هنا، تقف العصافير إلى جانب رجلها شاهدةً على أمل بغد أجمل، غد مليء بالتغيير الإيجابي، والانسجام مع الطبيعة الأم. لكنّها تشهد أيضاً على أن سمعان خوام الفنان والشاعر، هو نحات بامتياز، بعيد عن السفسطة وقريب من الترجمة العملية لما يؤمن به. نحات عفوي صادق، يشكّل بأبعاد الأمل طيف بلد جميل، ومذكراً بأحرف إبراهيم طوقان: «في يدينا بقية من بلادٍ، فاستريحوا كي لا تطير البقية»!

* Birdman: حتى 29 كانون الأول ـــ «غاليري أجيال» (الحمرا) ــ للاستعلام: 01345213