تونس | غداة سقوط نظام بن علي قبل ثلاث سنوات، كان مغنّو الراب يتصدّرون المشهد الثقافي، وخصوصاً حمادة بن عمر المعروف بـ«الجنرال» (١٩٨٨). حققت أغنيته «رايس البلاد شعبك مات» انتشاراً واسعاً وسط الشباب الغاضب، ما أدى الى اعتقاله قبل أيام من سقوط النظام. وفي عام 2011، أدرجته مجلة الـ«تايم» بوصفه من الشخصيات المئة الأكثر تأثيراً في العالم، ما فتح له شهرة واسعة في المحافل الدولية التي اهتمت بالثورة التونسية. ثورة كان لفناني الراب دور بارز فيها من خلال تجاوز الخوف واقتحام مناطق في التعبير كانت ممنوعة ومحفوفة بالمخاطر.
بعد تراجع حضور مغنّي الراب بين ٢٠١١ و٢٠١٣، استعادوا أخيراً المبادرة. قدّم «الجنرال» أغنية جديدة بعنوان «رايس البلاد ٢» انتشرت على مواقع التواصل، لكنها لم تحقق حتى الآن ما حققته أغنية الثنائي محمد أمين حمزاوي وكافون «حوماني». تصوّر الأخيرة المعاناة والحرمان في الأحياء الشعبية. بعد تصويرها بطريقة الكليب بكلفة لم تتجاوز ١٢٠ يورو، ونشرها على اليوتيوب، شاهدها ما لا يقل عن خمسة ملايين حتى الآن.
«حوماني» مشتقة من كلمة «الحومة» التي تعني الحارة أو الحي باللهجة التونسية. جسّد الثنائي في الأغنية، التي اعتمدت على موسيقى الريغي، صوراً من الحياة المتواضعة في الأحياء الشعبية كانعدام البنى التحتية وفضاءات الترفيه، والعنف والانحراف والبطالة والانقطاع المبكر عن التعليم، كأنّ الناس هناك يعيشون في مزبلة كبيرة. كانت الأغنية قريبة جداً من واقع الأحياء الشعبية حول العاصمة، مثل حي التضامن والزهروني والمنيهلة ودوار هيشر التي أصبحت أوكاراً للجريمة والتطرف الديني بسبب الإهمال الذي تعيشه منذ أن نشأت على هامش العاصمة.
هكذا، استعاد مغنو الراب المبادرة في مواجهة القمع الذي حاولت الترويكا الحاكمة بقيادة حركة «النهضة» الإسلامية استعماله ضد الناشطين؛ أولهم فنانو الراب الذين غُيّبوا عن المهرجانات الصيفية وحُرموا من الدعم الذي تقدمه الوزارة للفنانين، على اعتبار أنّ ما يقدمونه ليس فناً. مع ذلك، وصل هؤلاء الى الجمهور لأنّ كلماتهم تشبه معاناة الشبان العاطلين من العمل الذين حلموا بأنّ الثورة ستغيّر حياتهم إلى الأفضل، فإذا بهم لا يجنون شيئاً بعد ثلاث سنوات من سقوط النظام السابق. حتى إنّ «النهضة» سعت الى تشجيع مجموعة من مغنّي «الراب المسلم» كما وصفه بعض الصحافيين؛ من بينهم Psyco-M (محمد الجندوبي، ١٩٨٦) الذي اشتهر بأغنية دعا فيها الى قتل السينمائي النوري بوزيد المعروف بمواقفه ضد الإسلاميين، واشتهر هذا «الرابر» باستهداف الناشطين اليساريين. رغم كل هذه المحاولات، لم تنجح «النهضة» في خلق راب موازٍ لأصوات الفنانين الشبان الذين يداوون مرارة الحياة وخيباتهم بالغناء في الساحات العامة والأحياء الشعبية ووجدوا في اليوتيوب والفايسبوك وبعض الإذاعات الخاصة أفضل وسيلة للتواصل مع الجمهور الواسع.
غضب فناني الراب ليس على حكومة الترويكا و«النهضة» فحسب، بل على كل الطبقة السياسية التي ظهرت بعد سقوط النظام السابق، واحتكرت المنابر الإعلامية وحوّلت وجهة المعركة من معركة ضد الفقر والتهميش في المناطق المحرومة الى معركة كراسٍ يكتفي فيها الشعب بدور «الكومبارس». الأغنية الجديدة للنجم بلطي (محمد صالح بلطي، 1980) Pampam عبّرت عن هذا الغضب الذي يتنامى يومياً. الأغنية التي شاهدها على اليوتيوب في غضون يومين فقط حوالى ٩٠ ألف شخص، عبّرت عن إحساس التونسيين وخصوصاً الفئات المهمشة، وكانت مرآة عكست مشاعر الإحباط والمرارة وخيبة الأمل، والقهر الذي يصل الى حد الشعور بما يشبه إحساس مَن تعرّض للاغتصاب. وقد استعمل بلطي كلمات جنسية يستعملها التونسيون في الحياة اليومية، وخصوصاً في لحظات الغضب.
يمكن اعتبار أغنية Pampam الباب الذي عاد منه بلطي بعد تراجع حضوره في المشهد الإعلامي خلال السنوات الثلاث الأخيرة. لقد كان الأكثر حظاً من فناني الراب قبل ما يعرف بالثورة في مستوى الحضور الإعلامي وفي المهرجانات، ما جعل بعض منافسيه يتّهمونه بأنّه كان مرضياً عنه من السلطة ولم يوجه لها «كلاش» بلغة «الرابرز»، بالقدر نفسه الذي فعله «الجنرال» مثلاً. Pampam جاءت بعد «حوماني» التي صارت أشبه بالنشيد في اجتماعات الأحزاب اليسارية، لكن الفرق أنّ أغنية بلطي تشكك في الثورة وتعتبرها «الكاميرا الخفية» التي جعلت الشعب يأكل «المقلب»!



البوليسية كلاب

بدأت عودة «الرابرز» الى الواجهة في تونس قبل أغنية «حوماني» التي صدرت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. أغنية «البوليسية كلاب» هي التي لفتت الانتباه مجدداً الى ظاهرة الراب التي نشأت على هامش المشهد الموسيقي التقليدي. صاحبها «ولد الكانز» (علاء الدين اليعقوبي، ٢٥ عاماً) اعتُقل في محافظة بن عروس الربيع الماضي بسبب إهانة أعوان الأمن. وقد نظّمت جمعيات حقوقية حملة مساندة واسعة للدفاع عن «ولد الكانز»، الذي أعيدت محاكمته ثانية، وسجنه مع المغني «كلاي بي بي جي» (أحمد بن أحمد) بسبب حفلة قدّمها الاثنان ضمن «مهرجان الحمامات الدولي» الصيف الماضي.