قبل ثماني سنوات، أنهت ذبحة قلبية نقيب المحررين السابق ملحم كرم بعد 44 عاماً على استحواذه على هذا المنصب. طوال نصف قرن، ظلّ كرم نقيباً في مفصل يخصّ قطاعاً حيوياً في لبنان، مقفلاً الجدول النقابيّ، ومؤمّناً بذلك فرصة انتخابه مرات عدة. غداً الخميس، يفتَح صندوق «نقابة محرري الصحافة اللبنانية»، أمام المسجلين في الجدول النقابي (عددهم 727)، لانتخاب مجلس للجمعية العمومية (مؤلفة من 12 عضواً) في «فوروم دو بيروت» (سن الفيل). وبعد مرور ثلاثة أيام كحدّ أقصى، سينتخب هذا المجلس النقيب الجديد من أعضائه الفائزين، إلى جانب نائبه، وأمين الصندوق، مع وجوب نيل كل مرشح، الأكثرية المطلقة من أصوات المُقترعين.
(أس. إدواردز ــ الولايات المتحدة)

عملية «ديمقراطية» في الظاهر، لكن هذا العام، يرجّح أن يتكرّر سيناريو ملحم كرم، مع احتمال كبير لإعادة انتخاب الياس عون نقيباً، بعد تولّيه ولايتين اثنتين، على مدى السنوات الست الماضية. مخاوف تحيط بإمكانية تحقق هذا السيناريو، وسط غياب فعلي لأي حركة اعتراضية، كالتي أنشئت قبل ثلاث سنوات، تحت مسمى «صحافيون من أجل نقابة مستقلة وشفافة وديمقراطية». آنذاك، طالبت الأخيرة بفتح باب الانتساب في النقابة، بدل حرمان المئات من الصحافيين/ ات من الدخول إلى نقابتهم، وبإنشاء قانون عصري. قدم هؤلاء أيضاً طعناً قانونياً بشرعية الانتخابات، وقّع عليه أكثر من 250 صحافياً. لكن الأمر انتهى بإرساء الوضع القائم، إذ ترأس عون النقابة لثلاث سنوات إضافية. حركة اعتراضية غائبة، ربما استسلاماً لواقع قاسٍ، ولقوانين مفصّلة على قياس أصحاب النفوذ لا تستطيع هذه الحركة خرقها، إضافة إلى مسؤولية تقع على عاتق بقية العاملين في القطاع المكتوب، فهؤلاء تقاعسوا بدورهم عن تقديم طلبات الانتساب، ولو بقيت مكدّسة، أو أعطيت الذرائع بأنها لا تستوفي شروط دخول النقابة.
الطعن الذي قُدّم على خلفية غياب «تنقية» الجدول النقابي، شابته دوماً ثغر واضحة، تتعلق بالأسماء الموجودة داخله، وخروج العديد منها من شروط الانتساب، بسبب امتهانها أعمالاً أخرى مثلاً، أو انكفائها عن ممارسة المهنة. ويطالب المعترضون بضرورة تنقية الجدول، لا سيّما من الذين توفوا، أو ممن أرادوا الخروج من النقابة برغبة شخصية منهم. لكنّ أمين سرّ النقابة، والمرشّح لمنصب النقيب، جوزيف قصيفي، ينفي في حديث مع «الأخبار» الموضوع، قائلاً إن الجدول «متحرّك». إذ دخل عليه 578 منتسباً/ة، بين عاميّ 2012، و2018، مع شطب حوالى 50 اسماً، بين متوفين، وآخرين قرروا تعليق عضويتهم طوعاً. ومع تشديده على «صرامة» قانون الانتساب إلى النقابة، يلفت قصيفي إلى أن الأخيرة «تساهلت هذه المرة في بعض الأمور». وبخصوص ترشّحه لمنصب النقيب، أطلق شعاره «من النقيب إلى النقابة»، مركّزاً على أزمة الإعلام اليوم، التي تقع على كاهل «النقابة والدولة معاً». واعتبر أن «دورنا كبير في الضغط على مراكز القرار»، و«فتح حوار لإنقاذ الصحافة» عبر تنظيم «مؤتمر وطني حقيقي تشارك فيه كل القطاعات»، تخرج عنه «اقتراحات عملية»، و«مشاريع قوانين» من ضمنها صندوقا التعاضد والتقاعد.
بدوره، الصحافي داود رمال، المرشح لعضوية مجلس النقابة، لا تختلف مقاربته للوضع القائم عن زميله. يرى أن هناك ضرورة لتحويل النقابة إلى «مؤسسة»، تضمّ كل ميادين الإعلام من المرئي والمسموع والإلكتروني. إذاً، طغت قضية إنقاذ المهنة على ما عداها، حتى لو كانت شعاراً انتخابياً بهدف الوصول إلى زمام النقابة. غداً، تخوض لائحتان متنافستان، غمار الانتخابات النقابية، وسط ترجيح كفّة تولّي الياس عون ولاية ثالثة لما في رصيده من كتلة ناخبة تضمن له الفوز. لائحة عون المسماة «القرار الحر» (تحظى بدعم قواتي)، تضمّ كلاً من: داود رمال، أندريه قصاص، حبيب شلوق، ريما صيرفي، نجم هاشم، تمام حمدان، يوسف دياب، فيرا يعقوبيان، رمزي مشرفية، ومنير نجار. أمّا اللائحة الثانية «الوحدة النقابية»، فيخوض فيها قصيفي «معركته» نحو كرسي النقابة. اللافت في هذه اللائحة، دخول أسماء وأطياف متعارضة سياسياً وأيديولوجياً، ضمت كلاً من: جوزيف قصيفي، جورج بكاسيني، علي يوسف، جورج شاهين، واصف عواضة، مي شهاب، سكارليت حداد، خليل فليحان، وصلاح تقي الدين، يمنى الشكر غريب، وأحمد درويش، ونافذ قواص. خلط أوراق، وإعلان عن تشكيل اللوائح في اللحظة الأخيرة، بعدما كان مرحجاً طرح ثلاث لوائح، من ضمنها واحدة تحمل لواء التغيير وإنتشال المهنة من أزماتها، روّج لها أندريه قصاص على وجه التحديد. وها هي تذوب في لائحة عون، قبل يومين فقط من الإستحقاق الإنتخابي، مكرسة صورةً مصغرةً عن دولة المحسوبيات في لبنان.
ولايتا عون ارتبطتا بوقائع فساد معلن، ورشى، ومحسوبيات، وأداء باهت وعاجز عن مواكبة الأزمات المتلاحقة التي خضّت الجسم الإعلامي، وأدت الى إقفال العديد من المؤسسات العريقة، كـ «السفير»، و «دار الصياد»، وتهديد البقية بمصائر سوداء، في ظلّ تفاقم الأزمة الاقتصادية، وغياب أي دعم أو سند يضمن حقوق المصروفين تعسّفاً، أو الذين تتقاعس مؤسساتهم عن دفع مستحقاتهم الشهرية. ظلت البيانات الهزيلة، سيدة الموقف، مع إقفال كل مؤسسة، أو تسريح أخرى موظفيها. ولعل البيان، الذي صدر عن النقابة بعد أيام قليلة من الاستحقاق الانتخابي، يندرج ضمن خانة المثل القائل «إن لم تستح فافعل ما شئت». إذ لفتت يومها إلى «ضرورة استمرار النقابة في النضال من أجل صيانة الحريات الإعلامية (..) ومن أجل إعلاء شأن المهنة»!
طغت قضية إنقاذ المهنة على ما عداها، حتى لو كانت شعاراً انتخابياً بهدف الوصول إلى النقابة


مشهدية قاتمة رست بفعل قوانين بالية، واحتكام مباشر للسلطة وأهلها، إلى أن أطلّ في أيار (مايو) الماضي «مشروع تطوير نقابة محرري الصحافة اللبنانية»، الذي أنجزه وزير الإعلام ملحم رياشي بعد تعاون بين لجنتي «وزارة الإعلام» و«نقابة المحررين». مشروع يفسح المجال أمام العاملين في الحقل الإعلامي (مكتوب، مرئي، مسموع، وإلكتروني) للانتساب إلى النقابة، حتى غير الثابتين وظيفياً (pigistes) والاستحصال على امتيازات داخلها، من ضمنها تحصين الصحافي أمام أي إستدعاء قضائي بحقه، وإنشاء صندوق للتعاضد المهني وآخر للتقاعد، وإلغاء «النقيب الأبدي». طبعاً، المشروع الذي استغرق وقتاً بين الوزارة والنقابة، كان جاهزاً لدراسته في لجنة الإعلام والاتصالات، ثم إقراره في مجلس النواب، إلا أنّه اصطدم بعراقيل عدة، أبرزها: اعتراض نقابة «الصحافة»، التي أصدرت وقتها، مذكرة اعتراضية اعتبرته «خطوة مجتزأة وناقصة». اعتراض كان متوقّعاً، لما خلّفه المشروع من سحب صلاحيات «نقابة الصحافة» الواسعة في التحكم بـ «المحررين»، خاصة أنّه أنهى ما يسمى بـ «المجلس الأعلى للصحافة» الذي يضمّ النقابتين، ويمنح «الصحافة» الحق في تقرير انتساب المحررين إلى النقابة، إلى جانب عرقلة «المحررين»، التي دعت إلى سحب المشروع الذي كان مُدرجاً آنذاك، على جدول مجلس الوزراء، بغية «إجراء تعديلات عليه والتوافق على صيغته المنصفة والضامنة».
بعد فقدان الأمل بإقرار مشروع القانون ودفنه حياً، إلى جانب بقاء مشروع قانون الإعلام الجديد حبيس أدراج المجلس النيابي، أعلن رياشي مجدداً في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عن اقتراحات قوانين، تخصّ دعم الصحافة الورقية بصفة «مكرر معجل» في ظل الأزمات المتلاحقة التي تخضّ الوسط الصحافي. لكن، طبعاً، كل هذه المقترحات وغيرها، ذهبت أدراج الرياح. هكذا، عاد المشهد إلى نقطة الصفر، وبقيت «الإصلاحات» حبراً على ورق، بفعل التجاذبات، وتكريس أمر واقع قائم منذ عشرات السنين بقتل مبدأ المداورة، وتثبيت «النقيب الأبدي»، إضافة إلى التواطؤ الواضح لمجلس النقابة والنقيب مع الطبقة السياسية، وتهميش أبناء المهنة، في وجه تحولات هائلة ومتسارعة في عالم الإعلام.