هذا رجلٌ كنبيذ الأديرة كلّما تعتَّقَ وتخضّرمَ كلما ازدادَ سحراً وتوهّجاً، وهو في الإبداع اللبنانيِّ أشبه بخميرةٍ مباركة، حضورُه في أي عملٍ مسرحي، سينمائي، إذاعي أو تلفزيوني يُشكِّل قيمة مُضافةٌ له (للعمل)، وبطاقة عبور نحو التصفيق قبيل إسدال الستارة أو إطفاء الشاشة. وجهه يَعلق في الذاكرة، وبصمة صوته لا تُمحى، وعيناه علامتا استفهام دائمتا الشك والسؤال، وأداؤه ساحرٌ، ساخرٌ أحياناً، آسرٌ على الدوام. إنه ببساطة: ممثلٌ لا يُنسى ولا يتكرر. لا يمكن اختصاره وتكثيف تجربته في سطور مهما كثُرت وطالت. فالبحر لا يُملأ بقارورة!واحدٌ من جيل الرواد الطليعين ومؤسسي الحركة المسرحيةِ الحديثةِ في لبنان والوطنِ العربي، يجمعُ بين أمرين لا يجتمعانِ كثيراً في قامةٍ واحدة وهما: الثقافةُ العميقة والنجوميةُ العريضة. فلا ثقافته المصقولة بنار التجربة جعلته يحلّق بعيداً من عموم الناس وهمومهم وتطلعاتهم ومشاكلهم اليومية. فكان النقابيّ الملتزم النشِط المشغول بقضايا زملائه من «أبناء الكار»، ولا جماهيريته الباهرة جعلته يرمي ما في جعبته من ذخائر نفيسة حملها معه من تجربته المسرحية الغنية، بدءاً من «سطيحة» البيت في ضيعته الكسروانية زبوغا (قضاء المتن في محافظة جبل لبنان) حيث تشكّل الحلم جنيناً في «لعبة» للأتراب والخلّان، مروراً بالمسرح الحديث مع رائده منير أبو دبس وكلاسيكيات المسرح العالمي بمقاربات ورؤى تجريبية، وصولاً إلى حضوره المتميز في مسرح الأخوين الرحباني، وما تلاها من أعمال عرفت نجاحاً شعبياً لافتاً كما الحال مع: أمرك سيدنا، بربر آغا، صيف ٨٤٠ وحكم الرعيان وسواها.
نافلٌ أن تكريم رائد كأنطوان كرباج (الذي أدرك غداة نكسة عام ١٩٦٧ أن الفنّ لا يمكن أن ينفصل عن واقع المجتمع والناس، فترك التجريب ومختبره الحديث إلى أعمال في صلب العمل النضالي) هو تكريم للمسرح نفسه، وإعادة اعتبار للخشبة (الذهبية) اللبنانية والعربية متجسدةً في مسرحيٍّ من قماشة نفيسة نادرة. يُذكّرنا حضوره بما يمكن للفعل المسرحي أن يتركه في متفرجيه ومتلقّيه، وتحملنا نبرة صوته إلى فضاءات لا تسعها إلا سماء المسرح المرفوعة على أعمدة من عرق المهنة، عرق الممثل المتوتر المشدود مثل وتر القوس لحظة انطلاق السهم، النازف روحه أثناء العرض، الباحث كل مرة عمَّا يجعل جذوة النصّ والمنصة متّقدةً على الدوام. وكيف لها ألّا تفعل ما دامت جمرة الروح متّقدة رغم رماد الحروب والخراب والعمر المديد الذي جعله صاحبه بأدواره المختلفة أعماراً لا تُعَدُّ ولا تُحصى.
نكتب عن واحد متعدد، وعن ثابت متحوّل. واحدٌ في تفرّده، متعددٌ في موهبته، ثابتٌ في مبادئه والتزامه ومهنيته، ومتحوِّل في أدواره وشخصياته وأعماله التي تشكّل مع أعمال نظرائه عمارة المسرح اللبناني المعاصر. وحين نذكر رعيل المؤسسين، نذكر أعمدة رفَعَت سماء الإبداع عالياً، أعمدة من لحم ودم وأحلام ورؤى طليعية سبّاقة، حملت المسرح ومشاغله على أكتافٍ ما كَلّت ولا هانت. وأنطوان كرباج واحدٌ من أبرزها وأجملها، تارةً يرتقي بنا إلى الأعالي الشاهقة المُشرِفة والمُشرِّفة، وطوراً يغوص بنا إلى أعماق سحيقة ثريّة كمناجم الألماس والذهب، أعماق لا يجيد سبر أغوارها غير أبي الفنون جميعها، وبأيدي صُنَّاعه المَهَرَة الذين هم على صورة كرباج ومِثاله.
واحدٌ في تفرّده، متعددٌ في موهبته، ثابتٌ في مبادئه، ومتحوِّل في أدواره وشخصياته وأعماله


أن يكرِّم مهرجان المسرح اللبناني في دورته الأولى مسرحياً برتبةِ «الكرباج» كما يناديه أصدقاؤه وزملاؤه، وأن تحمل هذه الانطلاقة التي طال انتظارها اسم الكرباج، فهذا يعني أن المسرح يُكرِّم نفسه، يُكرِّم الموهبة والشغف والتجربة والخبرة والمراس والإصرار ومغالبة التاريخ والجغرافيا معاً في أوطانٍ أشبه بالرمال المتحركة، ويُكرِّم ذاكرةً معتَّقة في بلاد مصابة بمرض فقدان الذاكرة حيال علاماتها الفارقة ومبدعيها الكبار الذين تتركهم وحيدين مستوحشين على قارعة التجاهل والنسيان، فيما يكتفي «حرّاس الذاكرة» الرسميون (والمُفترَضون) بحفلات الاستقبال المضجرة، وبتقيؤ الخطابات الباهتة المكتوبة بأقلام «المستشارين» البائسة.
تكريم أنطوان كرباج بشارة أمل ورجاء بأن هذا المهرجان يبدأ مشوار الألف ميل بخطوة تبدو طريقها في لحظة تكريم الكرباج مضاءةً بالحب والتقدير لهذا العلَم الذي جسّد عشرات الشخصيات والأدوار، وحمل من الأسماء ما ينوء به رجل واحد، وظلَّ الأخ الأكبر والنجم الأجمل: أنطوان كرباج.

* سُطِّرَت هذه الكلمة كافتتاحية للكُتَيب الخاص بالدورة الأولى لـ «مهرجان لبنان الوطني للمسرح» التي تحمل اسم الرائد المسرحي أنطوان كرباج، بناءً على طلب من مدير المهرجان الفنان رفيق علي أحمد وزوجة أنطوان كرباج السيدة لور غريب، ولكن لِـ «سببٍ ما» طالها مقص «الرقيب الثقافي» قبيل دفعها إلى المطبعة!

** شاعر وإعلامي لبناني