ينجو فيلم «أمينة» لأيمن زيدان في تجربته الإخراجية الأولى (إنتاج المؤسسة العامة للسينما- دمشق)، من أرتال الدبّابات والمعارك والرايات السود، تلك التي ألقت بثقلها على معظم الأفلام السورية في سنوات الحرب. يذهب إلى فرز القمح عن السنابل في البيدر السوري، ثم يلقي التبن جانباً. بعد سبع سنوات من الجحيم، هناك جحيم آخر ينبغي فحصه عن كثب في حركة دائرية ترسمها حركة النورج بوصفه مؤشراً على توقيت الوجع. هكذا يعمل المجاز بكثافة على تفكيك الحكاية، وإعادة تركيبها وترميمها بقوة الأمل. مشهد غسل الموتى في مفتتح الشريط، ثم جنازة الأب، ثم الفاتورة الباهظة التي ستدفعها الأم «أمينة» (نادين خوري) على مراحل، بغيبوبة الابن «سهيل» (جود سعيد) المصاب بالشلل التام، إثر إصابته بقذيفة في إحدى المعارك... مفردات عميقة لتراجيديا إغريقية تحفر عميقاً في الوجدان، من دون أن تستجدي العطف، إنما تنطوي على توثيق الألم البشري بإعلاء شأن الحواس والروح، فالابن الذي لا يغادر سريره، يكتفي بحاسة النظر في التعبير عن فجيعته، وضعفه في مواجهة القسوة التي تضغط على العائلة تدريجاً. إذ سيتكشّف تضامن الجار «أبو زهير» (قاسم ملحو) مع العائلة عن نبالة كاذبة، ومساومات عفنة مقابل اعتنائه بالأم والابنة «سهيلة» (لما بدور)، إلى درجة محاولته اغتصاب الابنة أمام شقيقها المعاق، بعد رفضها الزواج منه، قبل أن يثأر لها حبيبها العسكري «وليد» (حازم زيدان). تتراكم أوجاع الأم بصمت، مراهنة على القمح وحده في إنقاذ حياة أسرتها، حين تصنع تنوراً لبيع الفطائر، والعمل كخادمة في بيت أحد أثرياء الحرب، لتسديد ديونها المتراكمة، واللجوء إلى الحلم في مواجهة الفقدان. لكن تكرار الأحلام والاسترجاعات، سيثقل السيناريو (أيمن زيدان وسماح قتّال) بما لا يحتاجه في بعض مفاصله، خصوصاً أن الشريط يتكئ على المجاز في سرده البصري، وفي بناء وحدات مشهدية متجاورة ومرسومة ببراعة، تتفوّق في بعضها على السرد الحكائي للشريط الذي يعتمد مساراً أفقياً، تنقصه الضربات الشاقولية لإحداث منعطفٍ ما، ينقذ الإيقاع من سكونيته ولحظاته التأملية، وشهواته الميلودرامية الخاطفة التي تقتحم المتن الأصلي للسيناريو.
يعمل المجاز بكثافة على تفكيك الحكاية، وإعادة تركيبها وترميمها بقوة الأمل

سينجو الشريط مرّة أخرى، بعودته إلى الحركة الدورانية في مشهدياته، نحو البؤرة الأصلية التي تتمثّل في البيدر وحركة النورج. سيغيب الحصان، لتحل مكانه الأم في العمل، في ما يشبه العقاب السيزيفي في اختبار طبقات الصبر، من دون أن تفقد الأمل في شفاء ابنها، ليستكمل سيرة الأب: لحظة اغتسال الابن، واشتباكها مع لحظة اغتسال الأب، أو غسل الموتى، وغسل الموتى الأحياء، كما لو أننا إزاء مسيح مصلوب ينتظر قيامته، واستعادة أبجديته المفقودة بإشارة من عينيه في اللعبة التي ابتكرتها شقيقته، بعد مشاهدتها فيلماً أجنبياً عن حالة مشابهة للتواصل. سيموت الابن أخيراً، لتواجه الأم مصيراً مؤلماً آخر، لكنها لن تستسلم، إذ تزيح طبقة السواد عن حريق البيدر، وترسم بحركة النورج خطوطاً بيضاء، كآخر جرعة أمل في كتابة زمنٍ آخر لا يشبه مكابداتها قبلاً.