أول من اكتشف ناجي كان الشهيد غسان كنفاني عندما اختار أربع لوحات من أعماله خلال زيارته مخيم عين الحلوة ونشرها في مجلة «الحرية». سرعان ما طور ناجي تجربته ليتخذ من فن الكاريكاتور بديلاً للوحة المحدودة في قدرتها على التحريض السياسي. ولعل أبرز نجاحاته الأولى خلقه عدداً من الشخصيات التي تَعامَل عبرها في نقد الأوضاع العربية والفلسطينية هو «حنظلة »، فاطمة وإلى جانبهما تقف شخصية السمين ذي المؤخرة العارية الذي لا قدمين له، ممثلاً به القيادات العربية المرفهة والخونة والانتهازيين.
ولأفسح المجال لناجي العلي ليتحدث عن أهم شخصياته على الإطلاق: «ولد حنظلة في العاشرة من عمره، وسيظل دائماً في العاشرة، ففي تلك السن غادرت الوطن، وحين يعود، حنظلة سيكون بعد في العاشرة، ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك، قوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه. إنه استثناء لأن فقدان الوطن استثناء، وستصبح الأمور طبيعيةً حين يعود للوطن، لقد رسمته خلافاً لبعض الرسامين الذين يقومون برسم أنفسهم ويأخذون موقع البطل في رسوماتهم. فالطفل يُمثل موقفاً رمزياً ليس بالنسبة لي فقط، بل بالنسبة لحالة جماعية تعيش مثلي وأعيش مثلها، قدمته للقراء وأسميته «حنظلة» كرمز للمرارة. في البداية، قدمته كطفل فلسطيني، لكن مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني إنساني». وعن سبب إدارة ظهره للقراء، فتلك قصة تروى: «في المراحل الأولى رسمتُه ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس، وكان يحمل «الكلاشنكوف»، وكان أيضاً دائم الحركة وفاعلاً وله دور حقيقي: يناقش باللغة العربية والإنكليزية. بل أكثر من ذلك، فقد كان يلعب «الكاراتيه»، يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة».
ظهر حنظلة للمرة الأولى عام 1969 في جريدة «السياسة» الكويتية، وأدار ظهره في سنوات ما بعد 1973، وأصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته، مستبدلاً ما استخدمه سابقاً من تواقيع كالصليب في ما نشره في مجلة «الحرية» وصحيفة «اليوم» اللبنانيتين، وكذلك في أعماله التي نشرها في مجلة «الطليعة» الكويتية. تشكل شخصية حنظلة ظاهرة إبداعية لم تعرفها التجارب العربية. فهي انتساب فني - كتوقيع على العمل - وهي شخصية كجزء من عالم مسرحي. شخصية مشاركة في الحدث وفي الوقت عينه، مراقبة حذرة لا تتردد في شتم من تراه فاسداً أو رافعاً راية الاستسلام. هو صوت الطبقات المسحوقة، منحاز لأوجاعها ولأحلامها أو كما يقول ناجي «هي تهمة لا أنفيها، أنا منحاز لمن هم ـ تحت - أن نكون أو لا نكون».
حوّل رسوماته إلى مسرح شعبي بعيداً عن الإبهام، مستعيناً بصيغ حوارية هي أداته في فضح فساد الأنظمة العربية والفلسطينية
رافقتني شخصية حنظلة منذ تعرفت إليه في الكويت ومتابعاً لما تقوم به بعض المؤسسات الشعبية، وولده خالد من فعاليات في مناسبة ذكراه كجهد في إبقاء شعلته قيمةً أخلاقيةً لم تعرفها السياسة العربية. في عام 2010، فكرت في نقل رسمة حنظلة إلى واقع، إلى شكل أيقوني خارج الورق أو الكتب، له مواصفات طفل معتد بوقفته متطلعاً إلى الأمام. أنتجتُه بنسخ محدودة من مادة البرونز وأطلقت عليه في حينها «توقيع الشهيد». وعندما تم تنظيم معرض استعادي لأعمالي من قبل مؤسسة المتاحف القطرية، وجدت الفرصة لكي أجعل من شخصية حنظلة علامة فنية متميزة الى جانب لوحة «صبرا وشاتيلا». عند البحث في المئات من الأعمال المنشورة في الكتب التي صدرت عن ناجي وما وثقته شبكة البحث غوغل، لم أجد عملاً يتلاءم مع روح ناجي التواقة لانتسابها العربي غير رسمته الشهيرة التي نشرها في الصفحة الأولى من جريدة «السفير» عام 1982، يوم صبت الآلة العسكرية الإسرائيلية حممها جراء صمود المدينة وأهلها ومقاتليها، إلى جانب العنوان الرئيسي للجريدة «بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء». كان كاريكاتور ناجي تحت عنوان «صباح الخير يا بيروت». هذا العمل يؤكد انتسابه العربي ويعلن محبته للمدينة التي استقبلت أهله عند نزوحهم عام 1948. عاش وتعلم فيها وعرف سجونها في أوقات مختلفة. المدينة التي احتضنت المقاومة الفلسطينية وشكلت قواها الوطنية رغم كل الأخطاء. لحمة الصمود أمام الغزو الإسرائيلي، وتعود بيروت اليوم واجهة للمقاومة أكثر من أي بلد عربي، المدينة التي يحق لها أن تفتخر بمبدع عاش فيها وانتسب لمناخاتها الإبداعية، ناشطاً سياسياً يحمل الريشة لا البندقية وكما يقول «معيش هوية ولا ناوي أتجنس».
إنّ وجود هذا النصب أمام «متحف نابو» بفضائه العربي وبتمثله لتاريخ المنطقة إابداعاً وتوثيقاً، هو عودة لتكريم هذا المبدع بعدما فُجِّر نصبه التذكاري من إبداع الفنان اللبناني شربل فارس قبل سنوات، وكان في المدخل الشمالي لمخيم عين الحلوة... عاد حنظلة مرة أخرى إلى حضن المدينة التي كونته وأطلقته عبر صحافتها مبدعاً لا يهادن.
* نحات وفنان تشكيلي عراقي مقيم في بريطانيا