على الرغم من انحسار فرويد في الأدب العالمي المعاصر، نعود إلى «طواطمه» ونسخته عن الدين والتوحيد. تلك النسخة تقترح أنّ ما يُعْوِز إرثَ زياد الرحباني الفني ليوازي ديناً هو أن يقتله أبناؤه... هؤلاء الذين لا يستطيعون سلخ لغته عن ألسنتهم، أو طرد موسيقاه من أدمغتهم، مهما اختلفت آراؤه مع أولياء نِعمهم.يوم كان بعض هؤلاء أتباعاً ومقلّدين، لم ينجوا من تذمّره. صفّقوا في مسرحيّاته لحظةَ لم ينتظر تصفيقاً، أخذوا من لغته قشرة تتناسب مع هياكلهم الطائفية أو الاجتماعية التي لا يتفق معها زياد، بل التي كان ينتقدها أصْلاً. كان هؤلاء قبل غيرهم، إذن، تجليّاً للرجل بأنّه لم «يتمّ العلم» (حسب ادعاء البعض). أصبح خياره الوحيد أن يتمسّك برؤيته التي لم يرَ لها تكاثراً خارجه.
السيناريو نفسه حصل مع موسيقاه. في بيروت التي لم يتركها، قبل الحرب وخلالها وبعدها، ألّف زياد الرحباني موسيقى لم تتكاثر خارجه تأليفاً أو حتّى توزيعاً.
التجارب الموسيقية، كما الفكرية، تغتني من حوارات حيّة بين أساليب تتقاطع وتتعارض وتنسجم. سارتر لم يجلس وحيداً في مقهاه الباريسي، كان محاطاً بأنداد ومحفّزين. شارلي باركر لم يعزف وحيداً في نيويورك، كان إلى جانبه عمالقة مثل ديزي غيليسبي وباد باول وكثيرين غيرهم. جورج غيرشوين يؤلف أغنيته الشهيرة عن الصيف، فنظل نسمعها لعقود بأساليب أخرى من مايلز دايفس ونينا سيمون وآرت بيبر وعشرات غيرهم. أما موسيقى زياد، فالوحيد الذي يعيد توزيعها هو زياد نفسه، وإذا ما أعادها غيره، فبإنقاصٍ وضمورٍ، عوضاً عن ضخّ حياة جديدة تأويلية فيها.
قتلة زياد، إذن، ثلاثة. الأول سيّاف يحمل سلاح السلطان كونه يأكل من خبزه. والثاني ابن قلّده من دون أن يلمس جوهر رؤيته، فأرهقته، بعد زمن، المسافة بين لغةٍ اعتنقها وذاتٍ بقيَت غير منسجمة معها. أمّا الثالث فهو من لم يوفّر بيئة ديناميكية تنعش الفكر والفن، الغارق في غياب الموهبة والدأب واللغة البسيطة الصادقة. وفي أحيان كثيرة، يتقاطع الثلاثة في شخص واحد!
وإذا كان حلّ مشاكل المجتمع اللبناني عند الأخوين رحباني كامناً في أحلام طوباوية كمن يداوي سرطاناً بالنكران، فإن زياد الرحباني تعامل معها بتشخيصها أوّلاً. زياد لم يقزّم المجتمع اللبناني. هو وصفه فحسب كي يريَنا ما نحن عليه من مسافة الفنّ. الأصوات التي تناوئ وصفه وتتهمه بالجمود أو بالمناكفة، إنما هي جزء مما يجعل الوصف تقزيماً. حلوله «الستالينية» غايتها استئصال السرطان، ومن لا يتّفق معه على حلّ استئصالي، فليقترح علاجاً كيميائياً آخر. هذا مع أن ما سمّي بـ«الستالينية» عند زياد، لم يكن ليفوق ما قد يقوم به أي شرطي أميركي أو أوروبي اليوم، كردّ فعل على أي سلوك من شأنه أن يعرقل مسيرة نهار واحد من الإنتاج.
تتكلمون عن المرأة العاهرة في مسرح زياد، وتتغاضون عن صوت زوجها الذي ارتفع في «بالنسبة لبكرا، شو؟» ليطالب بعيش أفضل له في بلده، عوض أن يضطر للسفر إلى الخليج كي يعمل في مطعم يدور. تتناسون إرادياً أن ثمة امرأة أخرى عند زياد ترفض البطريركية في «مش فارقة معاي»، وتحكي الحقيقة خالصة في «خلص». كذلك «شي فاشل» هي دعوة للتحرّر من التقليد وإيجاد لغة أقرب إلى الواقع المُعاش من الموروث الممجوج الذي لم ننجُ منه حتى الآن:
سمعتُ البارحة أغنية تقول كلماتها: «ميلي يا حلوة ميلي يا غصن البان». هذه أغنية أنجزت في 2018! ما هو هذا البان الملعون الذي ملأ عشرات الأغاني والقصائد وما زال؟ ليس زياد من يصارع طواحين هواء، بل هو المعترض الأول على الـ«دون كيشوتية» المجنونة التي لم تتفلت من المألوف في الأغنية والمسرح. «أبو الزلف» في المسرحية – كما الغادر في «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» – هو المتذمّر على لغة عصيّة على التجدد، وعاجزة عن الشفافية، أكثر منه مناكفاً لمارونية سياسية.
كما أن زياد لم يغفل عن ملاحظة الطفرة الشيعية. في أغنية تتوقع بأن الحرب اللبنانية «راجعة بإذن الله» في عام 1980، مقطع مخصّص لزوال الشاه في إيران. ما الذي جعله يجاور حربنا بزوال نظام الشاه؟ وفي عام 1993، رأينا الطفور الشيعي المتمثل في حشر «حسن» وجهه في كل الأطُر مرتبطاً بتضحياته كمقاوم كون أخيه شهيداً.
كذلك، صَوّرَت «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» البيروتي صرّافاً ومتزوّجاً من مسيحيّة، وفي ذلك استشراف واضح لزواج «القوات» من «تيار المستقبل». لكن هذا الاستشراف لم يكن نتيجة طابة بلورية يملكها زياد، بل نتيجة لفهمه العميق لجوهر اليمين. أليس في شخصيات الصرّاف ذو الأرواح السبعة، و«مصاري» الذي يبرّر هوسه بالمال، بما تحويه اللغة اليومية من إشارات إلى المال (وهذا أسلوب يحاكي بطرافته وعمقه على حد سواء استقصاءات الكوميدي جورج كارلين اللغوية)، و«خضر» الذي يعمل نجّاراً وطبّالاً وسارق دراجات، أليس في هذا كله إدراك لطفور ثقافة المال؟ إذا كان هذا مجرّد تعبير عن شرَهٍ متأصّل، فلِمَ لمْ تبزغ شخصية «مصاري» وغيرها في مسرحيات سابقة؟
الأشخاص في «بخصوص الكرامة» تحركهم نوازع من ضمنها الصدمة التي لم تعالج، وبالتالي من شأنها أن تتواتر وتتضاعف: «حسن» أخوه شهيد، واليائس لا يدرك الفرق بين مكتب الضابط والعيادة النفسية. حربنا، إذن، لم تنتهِ. هي توقفت يوم سقط حائط برلين، وفرط عقد الاتحاد السوفياتي، وتوحد اليمن، وحدث اتفاق الطائف. هذا يعني أن ثمة جوهراً فينا لم يتغيّر، لأننا لم نستأصل ورماً ولم نفحصه تحت المجهر. الفنان ينتظر بحدْسه وذكائه تعديلات جينية لم تحدث، ولا يأبه لعمليات التجميل أو لألوان طلاء الأظافر. أي تغييرات هي التي لم ينتبه لها زياد؟ أنيرونا. ما الذي تغيّر في جوهر مشاكلنا منذ عقود؟ أشيروا إلى تغييرات جوهرية كي نقرّ أن الرجل أخفق في الانتباه إليها. أمّا أن تلخّصوا عمله بأنّه تسمّر، من دون الإشارة إلى ما تدّعون أنه أخفق في رؤيته، فهذا يسهّل على القارئ أن يعزي نقدكم إما إلى سذاجة، أو إلى ما تقبضونه ثمناً للمقالة.
نحن كلبنانيين، فرصتنا الوحيدة اليوم كي نخرج من بؤرة التلوّث التي تطمرنا إلى ما فوق رؤوسنا، هي أن نقبل بتشخيص أمراضنا على النحو الذي عرضه زياد. يجب على من يخالفه الرأي أن يقدّم رأياً مغايراً ومفصّلاً بشكل يستحقّ النقاش، عوض أن يعزو إرثه الفني إلى مناكفة. هذا العزو هو بدوره تعبير عن «أوديبيَّتهم» تجاهه: زياد يغدو أباً مطعوناً من قِبَل أبنائه، لا من أجل أن يستحوذوا على نساء القبيلة فحسب، بل من أجل أن يستأهلوا شيكاً من سلطان أو خدمه. إنهم يهربون من الفصام: يقبضون مالاً من أعداء زياد، وهو لما يزل جزءاً من لغتهم. ذاك أنّ هجاءهم له هو انسجام الضجيج مع الضجيج، لا الموسيقى مع الموسيقى. أين المشكلة؟ المشكلة هي أن ليس بين أعداء زياد من يستحقّ الشراء – أدبهم ضعيف! يساند زياد النظام السوري في الصراع القائم، فيجيبون بما «رأته عيون أطفال سوريا»، من دون أي استنكار لما قامت وتقوم به القوى الظلامية المموَّلة بسخاء. هذه زجلية مخزية يقترفها من يدّعي أنّه يخاف من أن يكون لبنان مجتمعاً زجليّاً. اليمين الغني الذي لم يجنِ ماله بعرقه يستسهل شراء الضعفاء أكاديميّاً وأدبياً على خلاف أغلب أعدائه.
زياد لم يتغيّر. هو هجاكم يوم كنتم شيوعيين، ويهجيكم اليوم. وهو قاطع نظام الأسد يوم كان حلمه بحزبه حياً، ويوم تضاءل الحلم نتيجة زهد أسعار كثيرين، أصبح «البعث» و«حزب الله»، وهما لا يشبهان زياد إيديولوجياً، الجبهة الوحيدة التي تقاوم إمبريالية لا يخالف يسارُها يمينَها بأكثر من تشدّق بحقوق الإجهاض ورفض سهولة شراء السلاح في الداخل الأميركي. لو تعلمون كم أن زياد أقرب إلى ما يقوله المثقف الأميركي المستقل الذي يعمل في جامعة خاصّة، ويتحرّك ضمن إطار حرية معيّن للتعامل مع النصّ وتحليله، المثَقّف الذي لا يكتفي بالجريدة اليومية في مدينته، أو بالـ«سي. أن. أن»، أو «فوكس نيوز» لتشكيل فكرته عن العالم. ما فتئ الغرب يحتفي بإزرا باوند الذي خان بلاده بمساندته لطرف المحور، وأمضى أيامه الأخيرة في مستشفى للأمراض العصبية في واشنطن، وبوالاس ستيفنز الذي ساند الاستعمار الأبيض لأفريقيا، ويدرّس الغرب قصائدهما بكثافة في مناهجه الجامعية. كذلك، أميركا تعشق توماس جفرسون (أبا الديمقراطيّة)، عشقاً يحاذي التقديس، وهو كان مالكاً للعبيد ولم يحرّر منهم سوى من كانوا أولاده البيولوجيين من جنس جانبي مع أَمَةٍ مملوكة، وكان «يكرِّم» الأسوَد باعتباره خمسة أثمان إنسان، أي أكثر من النصف! وما زالت أعمال مارتين هايدغر، الذي عمل مع الحزب النازي وكان معادياً للساميّة، تتمتع بنفوذ منقطع النظير في مجموعة واسعة من المجالات الفلسفية اليوم، الظاهرية والوجودية، والبراغماتية وما بعد الحداثة، والتأويل والشعر، واللاهوت والأخلاق البيئية.
أمّا أنتم فتصبّون غيظاً على زياد، لأنّه لم يزل شيوعياً يرفض أن يتعامل مع منتجين غربيين، أو يقيم حفلات في الولايات المتحدة أو يصبح ثريّاً. تعاقبون الرجل على اختياره طريقاً وعرة! كما أنكم لا تميزون مواقف الرجل السياسية من أعماله الإبداعية. عصابكم يدل على أنّكم تدفنون حبّكم له في زوايا أدمغتكم، هذا الحب الذي سينفجر تبجيلاً إذا غيّر الرجل موقفه من سوريا. مثلكم مثل من أغضبها عشيقها، ففضّلت ذهان أنّه بشع على حقيقة أنه لم يزل جميلاً رغم الخلاف. تحطمون المرآة التي تفضحكم. تتهمونه بتمجيد الشمولية التي – كما كتب فاكلاف هافل في عام 1984 – ليست سوى مرآة محدبة تعكس الحضارة المعاصرة. وإن من يعتقدون أن محو مثل هذه الأنظمة عن وجه الأرض سيجعل كل شيء على ما يرام، لا يختلفون عن امرأة قبيحة تحاول التخلص من قبحها بتحطيم المرآة.
صَوَّر صرّافاً متزوّجاً من مسيحيّة، في استشراف لزواج «القوات» و«المستقبل»


إن سبب محدودية شهرة زياد الموسيقيّة عالميّاً هو محض سياسي/ تسويقي. لو عاصرتم فان غوخ الذي لم يبع سوى لوحة واحدة، لما أعجبتكم أعماله لأنها لم تحظَ، في حياته، باحتفاء نقدي وتسويقي. الفرق أن فان غوخ كان يتوق إلى تسويق أعماله، بينما زياد لم يسْعَ إلى العالمية إراديّاً ربما – ضمن أسباب أخرى – لأن فيزا الولايات المتحدة تستوجب نكراناً لأيّ انتماء شيوعي. كتاب ألكسندر بيكروفت (إكولوجيا الأدب العالمي) في عام 2015، سيذكركم بالعوامل التي تطوّب أي عمل إبداعي عالمياً، العوامل التي لا شأن لها بقيمة العمل نفسه فحسب. لو أن لزياد شهرة عالمية يستحقها، لما تجرأتم على انتقاد أعماله بمقالات وتعليقات لا تستأهل علامة نجاح، لو أنها قدمت كفرض سنة أولى في أي كلية إعلام محترمة.
من المستغرب أن الأجندات السياسية (والمعاشات في الدرجة الأولى) أعمَت عيونكم عن رؤية أن موسيقى زياد لا تقل تأليفاً وتنفيذاً عن أفضل أعمال جورج غيرشوين أو دايف بروبيك أو أنطونيو كارلوس جوبيم (البرازيلي الذي توفي في نيويورك) أو غيرهم. موسيقاه لا تتضاءل مع الزمن، كما الموقف الحر من جوهر الأشياء. لم يؤلف لحناً واحداً ضعيفاً من شأننا أن نملّ منه إذا تكرر على مسامعنا. سمعنا «هدوء نسبي» في عام 1984، ونسمعها اليوم بنفس الإعجاب، وكذلك «أبو علي» و«وحدن» كما كلّ أعماله. من أخطار رأس المال أنه يسلب الإنسان حرية، ميزتها القدرة على رؤية الأشياء كما هي، من دون أقنعة تطويب أو إقصاء تصنعها أغنام موّاءة أو ظروف سياسية.
حفلتا بيت الدين الأخيرتان هما إشارة إلى أن الرجل ما زال يعيش من موسيقاه وفيها. بينما يداه تعزفان موسيقى لن تموت، كان ظهره المقوَّس يعزف لحناً صامتاً عنوانه توحّد الموسيقي مع آلته – هذا هو دأبه فنّه وصدقه. لا يقدِّر هذا من يعطي المال والمنصب أولويّة، بل يقدِّره الحرّ الذي لا يبيع مبدأً أو قناعة بخبز أو ترف، وهذا من صنف متضائل وربّما يكون مهدَّداً، ولكنه غير منقرض حتى اللحظة، لا في الغرب ولا في الشرق.

* طبيب لبناني مقيم في نيويورك