«أَسْماؤُنا شَجَرٌ مِنْ كَلامِ الإِلهِ، وَ طَيْرٌ تُحَلِّقُ أُعَلْى مِنْ الْبندقيّة.لا تَقْطَعوا شَجَرَ الاسْم يا أَيُّها الْقادمون مْنَ الْبَحْرِ حَرْبَاً وَلا تَنْفُثوا خَيْلَكُمْ لَهَباً في السُّهول
لَكُمْ رَبُّكُمْ لَنَا رَبُّنا، وَلَكُمْ دينُكُمْ وَلَنَا دينُنا فلا تَدْفِنوا الله في كتب وعدتكم بأَرض على أَرْضنا كَما تدّعونَ, وَلا تَجْعَلوا رَبَّكُمْ حاجِباً في بلاط الملك!»
(محمود درويش- خطبة الهندي الأحمر)

من سلسلة «مقطوعة»

لأن الطير «تحلِّق أعلى من البندقية» ولأن الشجرة تعطر الفأس التي تقطعها، كذا نرتقي ونصنع فناً من ألمنا الأعمق. وكذا يولّد اقتلاع الاحتلال للزيتون شجراً أكثر، شجراً خالداً صارخاً في لوحات تغريد درغوث التعبيرية بامتياز. هكذا، تحولت الأغصان إلى عجينة لونية أكريليكية نابضة ترفض الحياد واللا لون: هذه أجسادنا تُنتهك، لحم أبنائنا الطري، ترابنا... هذا الزيتون لنا! سنقطفه ألواناً في المواسم وبعدها. وإن قطعتموها واقتلعتموها، نحييها رسماً لحكاية أمة، نعيد حياكة تاريخنا الممزق، نروي قصص الناس الذين رحلوا، ونبني عمراً قادماً بعيداً عن الظلم، ملتصقاً بالحق. في «غاليري صالح بركات» في كليمنصو، تحيي تغريد درغوث ذكرى مئات آلاف شجرات زيتونٍ اقتلعها الاحتلال غصباً وعدواناً وجوراً، لا لشيء، سوى لأنها من روح الكون الشاهدة ضد الظلم لصالح المظلومين. ترسمها درغوث ببراعة الراقص ـ لا طرباً- بل لحظة حزنه الأعمق، «فالطير يرقص مذبوحاً من الألم». وفي اللوحة تترنح الريشة بكل اتجاه على وقع صخب الاقتلاع. ولكن تغريد تصر على رسم أداة الجريمة أيضاً. إذ لم تقتلع الشجرة ذاتها أيها المحايدون! ولم ينتحر الأطفال أنفسهم، بل آلة الحرب، آلة الاقتلاع، آلة التدمير مقاتلة حربية كانت أم دبابة أم جرافة... كلها هنا في معرض يهز كيان الإنسان النقي. قتل البشر واقتلاع الشجر سواء، هو طعن لروح الكون، لكن هذه الروح أبقى! وبين آليات الحرب المدمرة، ولحم الإنسان والزيتون والأرض المُحتلة.. معركة وجودية لا حياد فيها. ولأن حيلة الفن التعبير، وحيلة التعبير الصراخ.. لا بُد من أن يُترجم صوتاً، لوناً، لوحة، معرضاً!
هذا معرض لك، أنت... «إنساناً» أينما كنت..! محايداً؟! نعم هذا المعرض لك أنت بالذات. أدوات حربية في وجه الشجر، واللحوم.. سمها ما شئت. أعطها أي معنى تريد، لكنها أولاً أنت وأنا! هي أجدادنا أو أحفادنا القادمون.. لا فرق! وضعتها لنا تغريد درغوث في لوحات نابضة وضربة ريشة ماكنة تكاد تكون عنيفة لفرط سخطها. تعبيرية حتى الثمالة! يُخطئ من يضيف أي صفة على التعبير. تصرخ اللوحة بالأزرق والأخضر والزيتي الزيتوني للشجر. ثم بالترابيات وتدرجات الأحمر للجذوع المقطوعة، حيث يجاور الأحمر الدامي بعضاً من الرماديات. أليس اسم اللون من معناه؟ رماداً أراد المقتلع أن يحيل خضارها، لكنها تتجدد مع كل موسم وتثمر. شجرة الزيتون التي اتخذها المستوطنون المحتلون عدواً مركزياً لهم، يحاولون اجتثاثها من كل أرض فلسطين بشكل ممنهج، وبهجمات يومية وحالة حرب مستمرة مع الطبيعة الأم، وأي عاقٍ يحارب أمه؟! بل أي انفصامٍ في محاربة عشقك ومقدسِّك؟ ألم يَردِ الزيتون وزيته عشرات المرات في التوراة؟ ثم الإنجيل فالقرآن؟ أهكذا يعاقب «المؤمنون» مقدسهم؟ فيما الصورة في المقابل في الأذهان تبقى لتلك المرأة الفلسطينية المُسنّة، التي عانقت زيتونتها في وجه المُقتلع، كمن يصرخ بإيمانٍ حقيقي حتى الموت: «خذوا روحي ولا تقتلعوها»!

من سلسلة «شجرة زيتون فلسطينية»

منذ العام 2017، بالتوازي مع البحث البصري التشكيلي، تابعت الفنانة موقف الفيلسوف سلافوي جيجيك: «كان يشرح معنى الصمود عند الفلسطينيين، معبّراً أن لا علاقة لذلك لا بالدين ولا بالسياسة، وإنما بإحساسهم بهويتهم الشخصية. قائلاً أنه في وقت «السلم»، يدمر الصهاينة شجرات الزيتون بطريقة ممنهجة» تقول درغوث لـ «الأخبار». وقد كان خيارها وقرارها العمل على موضوع محلي، مع إدراكها لأهميته البصرية الممتعة. تتابع: «شجرة الزيتون، في الوقت عينه، تتيح لي أن أكمل العمل الخط الذي تبنيته دائماً، وهو الإضاءة على أمورٍ هامة تحصل بوضوح علناً في عالمنا، لكنها تمر عرضياً من دون أن يكترث أحد لأهميتها». يشهد صالح بركات على بحث درغوث التفصيلي: «هناك مؤسسات فلسطينية تَعُدُّ الشجر المُقتلع. عندما علمت تغريد أن عدد الشجرات المقتلعة تصل إلى مئات الآلاف، كان طبيعياً أن تتفاعل كفنانة مع المعطيات الميدانية هذه. الفنان سلاحه الريشة، طريقته في المقاومة، في التعبير، أن يحول آلة القتل البشعة إلى جمال». و يضيف بركات: «قد تجدين في المعرض لوحة لطائرة حربية، ليس عبثاً، بل لأن الفلسطينيين يعلمون مع كل طلعة لسلاح الجو، متى سوف تقصف المقاتلة أو العكس. هذه الآلات لها علاقة دائمة بقصف الفلسطينيين. والمنطق نفسه في ما يخص الميركافا والجرافات وآلات التدمير والقتل والسحق». قتل وسحق، فكيف لا يعبِّر الفنان في هذه الحالة؟ كيف لا يغضب؟ وكيف يصحُّ ويرتقي الفن من دون التزامٍ إنساني!؟ في هذا كتب الراحل مروان قصاب باشي في يومياته الصادرة تحت عنوان «أيام الرماد والرمان» (2018): «أشعر أني مُغتصب الآن، بعد شعور بالارتياح النسبي إثر عودتي من عمان. إن انتفاضة فلسطين والقتل الوحشي الذي تقوم به الصهيونية وإسرائيل، إلى جانب موقف الحكومات والإعلام الغربي تترك في ذاتي ألماً وغضباً عميقَين. أشعر بالإهانة والاغتصاب، وقد عاد ضعفي وعادت صعوبة تنفسي اليوم واختلط ظلام اليوم مع ظلام النفس».

من سلسلة «اسمع اسمع»

أحرفٌ كدليلٍ أسمى على مدى ارتباط عاطفة الفنان بموقعه وموقفه الإنساني. فكيف إن كان قصاب باشي من الآباء المؤثرين في مسيرة درغوث وبشكل خاص تقنياً؟ «أعتقد أن العلاقة التي نسجناها مع مروان قصاب باشي أدخلتني إلى هذا المكان، حيث استمتع باللوحة التعبيرية حتى النهاية. عملي فيه من هذه الروحية، نتيجة التجربة مع مروان» تقول درغوث ثم تضيف: «معظم الفنانين الذين أعشق أعمالهم، هم تعبيريون. سوتين وبازيليتس، وكل التعبيريين الألمان، أوتو ديكس، حتى التعبيري التجريدي، فأنا أعشق أعمال دوكونيين. لغته اللونية فوق عالم الاحتراف». عشق من هذا النوع، يفسر موقع تغريد درغوث وصلابة تكوين أعمالها، ومفرداتها البصرية وحتى تأليفاتها المتينة. يضعها على خارطة الفن التشكيلي في المنطقة بقوة وتميُّز. من هذا العشق، استنبطت لغة تعبيرية بصرية خاصة بها تكاد ــ مع قراءة العين الأولى لأعمالها ـــ أن تخلُص إلى اسمها موقعاً قبل أن تراه. الفنانة التي تستعمل كمية كبيرة من الألوان وتخلط عجينة كبيرة، لا تفكِّر كثيراً في تقنية الخلط، بقدر ما تكون في طور اكتشاف ما يمكن للونين أن يُنتجاه. النتيجة البصرية، أو الطبقة النهائية قد تراكمت تحتها ثلاث أو أربع طبقات. تغيِّر تغريد رأيها في بعض الأحيان، وقد تقلب العمل. فالعمل النهائي يصل بعد مراحل متعددة ترى الفنانة بعدها أنه قد أصبح منسوجاً جيداً. «قد أغير رأيي، كأن ألغي مجموعة أعمال، أو ألوِّن فوقها وأستفيد من الخلفية، كالجرافات التي تحتها جميعاً كانت «مجموعة اللحوم».

من سلسلة «الميركافا»

موضوع اشتغلت عليه ثم ألغيت معظمه. ليس لدي قاعدة ثابتة ومحددة في العمل، لكن المؤكد أن لا لوحة تنتهي بجلسة واحدة. عادة اشتغل على مراحل، لأن الأكريليك مادة تجف بسرعة فيتغيَّر لونها. استطعت في هذا المعرض أن استفيد من المصادفة التي تصنعها لوحة لم أرضَ عنها، فاستفدت من كل طبقة سابقة في الخلفية، ووظفتها للنتيجة النهائية» تقول تغريد التي ترسم لساعات يومياً في مرسمها بقدر ما يمكن لجسدها أن يتحمل. وتضيف: «أحب التلوين. ولا مزاج لي في النحت، لست صبورة مع المواد. أعمالي تشبه شخصيتي. أمشي بسرعة وأتحرك بسرعة، وطبعي هذا أوظَّفه في اللوحة، لأن هناك شيئاً استثنائياً ينتج من الحركة السريعة، لا يمكن أن ينتج من العمل الهادئ. لذا هذه الضربات تشبه شخصيتي. أحب النتيجة السريعة، هذا لا يعني أنني في استعجال! نعم، هناك انفعال، ثم أضع العمل جانباً وأعود إليه -انفعل مجدداً- إلى أن أحصل على نتيجة ترضيني بصرياً». صيغة تعبيرية بامتياز، حيث ينغمس الفنان بكله في مادته قلباً وقالباً، ما يذكرنا بويليام دو كونينغ: «أنا لا أرسم مع أفكار مسبقة عن فني. بل أرسم من شيء مُعاش. يصبح هو جوهري ومحتواي».
اختارت عنوان معرضها «مُماثلة لحياة الإنسان» من فان غوغ الذي اعتبر فترة الحصاد، أكثر اللحظات قدسية وألوهية

هذا ما عبَّرت عنه درغوث، قائلةً: «إن اللوحة فعل تراكميّ، ما ترينه وما تعيشينه وما يمكنك أن تقوليه. وطبيعتك أيضاً، وليس فقط مزاجك. يعني كلها تجتمع لتنتج لوحة. باعتقادي كلما قضى الفنان وقتاً يراقب عمله، كلما تقدم، ويجب أن يعطي الأعمال وقتها بالكامل». خلاصة جديرة بالتأمّل، بخاصة من فنانة لا تريد بُعداً واحداً لعملها، على رغم التعبيرية، تبحث عن الابتعاد عن الإنشائية. وللمفارقة، فقد اختارت درغوث عنوان معرضها «مُماثلة لحياة الإنسان» من فان غوغ. «كنت أقرأ عن مجموعة شجر الزيتون التي رسمها في آخر سنة له في سان ريمي. وكان فان غوغ يرى العلاقة بالله عبر شجرة الزيتون، باعتبار الحصاد، أكثر اللحظات قدسية وألوهية. قررت أن أستعير رمزيتها منه وليس من رمزيتها المحلية، لأنني أردتُ أن أقارب الموضوع من جانبٍ غير وصفيّ» تقول تغريد، قبل أن يختم بركات: «الجميل في المعرض أنه يُقرأ بأبعاد مختلفة. فهو تحية لعالم البيئة، للشجرة، للمنظر الطبيعي، للزيتون.. ثم إن أردتم أكثر، فهناك المزيد حتماً!».

* «مُماثلة لحياة الإنسان» لتغريد درغوث: حتى 27 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ «غاليري صالح بركات» (كليمنصو) ـــ للاستعلام: 01/345213