ذات مرّة، وجدت عيْناً ملْقاة في أحد الشّوارع، حقيقيّة.. حتّى أنّني عندما انْحنيْت والْتقطْتها برفْق تلمّسْت دموعها. كانتْ ما زالت قادرة على النّظر.. عين تختلف بالتّأكيد عن تلك العيون الْمصفّاة المتناثرة على أرصفة القاهرة. ظللْت أحملها بحرص كي لا أفقأها، باحثاً عن شخص أهديها له. كنت أسترق النّظر إليها، فأراها تتأمّل الْمدينة مهزومة، دون وجه يرى بها، دون جارة تشاركها النّظر. في النّهاية — وكانت كفّي الحريصة المثقلة بها أتعبتني — اعتصرتها بعنف، حتّى شعرت بالدّنيا تظلم أمامها. في ذلك اليوم بالذّات، قابلت أشْخاصاً كثيرين فقدوا كلّ شيء، إلّا عيونهم، وفقط في البيت، تذكّرت أنّني ذات يوم، فقدت عيناً.
خلال موجات الثورة المصرية، كثيراً ما تم استهداف عيون النشطاء مباشرة من طرف حَمَلَة السلاح. ألا يشكل هذا «الحدث» لا وعي النص أو سياقه الواعي؟
- بالتأكيد، أقصوصة «عين» ملتقطة من شوارع ثورة يناير، انتُزِعت بدورها من وجه الثورة مفقوء العين، من أداة الرؤية التي جرت تصفيتها نيابة عن الجسد كأنه عقاب الجلاد الأكثر رمزية لجسد اللحظة. كتبتُ هذه الأقصوصة تحت هاجس قدرة الإيديولوجيا على تطويع «الشعري» نفسه لتصفية مقولةٍ ما عبر أكثر الآليات رمزية. وفكرت طويلاً: هل تطمح السلطة، أيضاً، في العثور على قصيدتها؟ وهل، أحياناً، تنجح في أن تسبقنا، نحن الذين ندعو أنفسنا حراس الخيال، بخطوة؟

عين حورس، «خَمْشَة» السافارديمية، عين يد فاطمة، عين جورج باتاي، عين شمس، عين سيكلوﭖ هوميروس وكڤافي الإسكندري... ثيمة مصرية ومتوسطية عريقة، ألم تستحضر أياً من أوجهها في وعيك وأنت تكتب نصك؟
- أنت تكتب مؤتنساً بشفراتك، سواء طفا بعضها على سطح نصك أو بقي بعضها الآخر محتجباً في القاع. الكتابة أيضاً استعادة لا واعية لثيمات الثقافة بغية مساءلتها، لا البحث عن إجابة جاهزةٍ فيها.. ليس بالضرورة توظيفها بالطريقة المدرسية للتناص، التي تستعير مقتبساً أو عبارة أو تورد اسماً أو عنواناً، التناص في جوهره تلويحة للنسيان، تجعلنا قادرين على الإمساك بخيط الثقافة عبر أكثر أطرافه هشاشة.

عين، نكرة، وليس: العين، معرَّفة. لماذا لا تكون هذه العينُ كلَّ عين؟ عينَ، بل جسدَ، مصرَ، الذي نكَّلَتْ به السلطة؟ رمزياً: عينَ البصيرةِ الشاهدةَ..
- التعميم كان مقصوداً، نعم هي كل عين يمكن أن نعثر عليها مثلما نعثر على قطعة عملة تحت أقدامنا. النص الأدبي، في تصوري، كالفعل، إما «لازم» أو «متعدٍّ». ثمة نصوص لازمة وأخرى متعدية. وفقاً لتصوري، يجب أن يكون النص متجاوزاً لبعده التداولي الأوّلي إن أراد ألا يكون خبراً في صحيفة، أقصد: يجب أن يكون استعارة، بمعنى أنه ليس محاكاة أولية للواقع، أو تلويحة كنائية، طامح لأن «يدل» لا أن «يحاكي». الاستعارة هي طريق الفن، كما أحبه وأتصوره، لكي ينشط مباشرةً داخل الدلالة، الدلالة المنزاحة عن الأفق الاتفاقي، أفق الإخبار التداولي الاستهلاكي في شكله غير الفني.

نصك هذا حكاية أم أقصوصة؟ بشكل أعم، هل تفكر في النوع الأدبي لنصوصك قبل/ خلال/ بعدَ كتابتها؟
- أؤمن أن النوع الأدبي ليس ملصقاً سابقاً أو قالباً نعبئ فيه ما نكتب. ومن بداياتي تعرضت لهذا الارتباك بشكلٍ عملي. ثمة مقتضيات للنوع، بالتأكيد، لكن الاختلاف يكمن في مدى مرونة التعامل مع هذه المقتضيات ومجادلتها ومنحها القدرة على إعادة تعريف نفسها، إن كان الفن حقاً تفكيكاً لا نهائياً لكل سلطة سالفة. مجموعتي القصصية الأولى «طيور جديدة لم يفسدها الهواء» (1995)، رفض ناشرها أن يصنفها كـ«قصص»، بل رفض نشرها في القطع المخصص للسرد، لتصدر في قطع خاص كان مخصصاً للشعر. وبالتالي تم تلقفها لدى البعض كمجموعة شعرية، قراءةً ونقداً. الحيرة نفسها واجهتُها في روايتي الأولى «شريعة القطة» (2003) الكولاجية بالكامل والكارتونية في بنيتها السردية المفتقرة فوق ذلك لحكاية حدثية لصالح عشرات المحكيات الصغيرة غير المضطردة زمنياً. حتى مجموعتي الصادرة أخيراً «مدينة الحوائط اللانهائية» واجهت هذه الحيرة، صنفتها كـ «حكايات»، غير أن الناشر فضل تصنيفها كـ«قصص» لأسباب تسويقية. مع ذلك، تعامل معها بعض النقاد والقراء كنص روائي مبني على غرار «ألف ليلة وليلة» وعاتبوني لأني لم أطرحها كرواية، وصولاً إلى تجربتي الأحدث «أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها» التي أعمل عليها حالياً (نشر ملحق «كلمات» عدداً من نصوصها). تأتي أغلب التعليقات عليها بأنها تنتمي لقصيدة النثر بأكثر مما تنتمي لجنس السرد. أنا كاتب مراوح نوعياً، ليس عن عمد أو وعي، فقد لعب تكويني الشعري دوراً مبكراً في هذا الانزياح عن السرد التقليدي، الكنائي والتداولي، لصالح الظلال الشعرية للحكاية، حيث أرى أننا نفتش في كل فن عن جوهر شعري ما، لو عدنا دونه فإننا في الحقيقة نكون قد فقدنا عصب الفن نفسه.

في أميركا اللاتينية، وبشكل ينسحب على العالم الناطق بالإسبانية، خصوصاً مع موجة الواقعية السحرية، ابنة «الليالي العربية»، انتفى التفريق الأنواعي بين الحكاية والقصة/ الأقصوصة. ألا ترى في الأمر سبباً لتثمين نصك بـ «جائزة متحف الكلمة الإسبانية الدولية».. الإسبان، الشعب الشرقي، رغم كل شيء؟
- ملحوظتك ذكية، واسمح لي أن أعتبرها التفاتة نقدية أكثر منها تساؤلاً. أوافقك، نحن كعرب نقف مطولاً أمام اللافتات حتى ننسى النصوص، تأمل الوقت الذي استغرقته مصطلحات مثل «الشعر الحر» و«قصيدة النثر» فقط لكي تستقر في ثقافة لا ترحب بالانزياح عن «ثوابتها»، بينما تحركت النصوص نفسها غير ملتفتة لذلك اللغط النظري. للسرد مأزق مختلف، لأنه سليل نص منبوذ هو «ألف ليلة وليلة»، ولأنه نقيض بلاغة اللغة المقدسة، من النص المقدس للقصيدة العمودية، لكن في الثقافة الغربية، الأمر مختلف، وحيرة النوع نفسها قد تكون في صالح جدة نص ما، بل سبباً إضافياً لتثمينه.

يبدو أن نصك «عين» بالذات اختمر ليكون لَبِنَةَ ومنطلَقَ «مدينة الحوائط اللانهائية»، مجازاً ناظماً للعلاقة بين النصين من خلال الحكاية الاستهلالية للكتاب: «حكاية المرأة ذات العين الواحدة» (اقرأ القصة في مكان آخر من الصفحة). ألا تكون هذه العينُ ما يسميه مُقَارِبُو النص الأدبي نفسياً بالاستعارات الهَوَسِيَّة؟ ألا يكون طارق إمام مهووساً باستعارة العين؟
- أنا من الكُتَّاب الذين يعيدون النظر لـ«نُطَفهم»، إن جاز التعبير، لتكثيرها في نصوص أخرى. بالتأكيد يحضر نص «عين» في لا وعي «مدينة الحوائط اللانهائية»، واستعارة «العين» حاضرة في أكثر من نص داخل الكتاب، لأني مشغول بها وبأفقها: «النظرة». ولا تنسَ أن «مدينة الحوائط» ترحب أيضاً باستضافة عدد من شخصياتي الروائية التي حضرت في رواية «ضريح أبي» وتعيد توظيفها في حكايات جديدة.

في هذا الكتاب، أيضاً، لديك تضارب في التجنيس الأدبي بين القصة والحكاية: بين« قصص» الغلاف و«حكايات» المتن الداخلي.. الكتابةُ إسمنتاً للحم الواقع والفنتازيا، على طريقة كتاب الواقعية السحرية؟
- كما أسلفت، المقابلة جاءت لأسباب تسويقية بحت، لكني لم أعترض لأني لا أرى في أحد التصنيفين نفياً للآخر، وبالفعل أنتمي للتصور الوجودي الذي تطرحه الواقعية السحرية كنظرة للعالم، وهي كما قلت أنت، نصنا العربي الأكبر وليس سلعة مستوردة من أميركا اللاتينية أو غيرها، وأندهش من «الجهلة» الذين يعتبرون «الواقعية السحرية» تياراً يطير فيه الناس فقط من دون سبب، لأن الكثير من الكتاب العرب لا يزالون أسرى الأدب الواقعي التقليدي ونظرية المحاكاة التي عفا عليها الزمن، والثنائية التافهة بين واقع/ خيال ويتحسسون مسدساتهم لدى تلمُّس أي اقتراب مختلف مما نسميه الواقع، لأنهم عبيد للإيديولوجيات، حيث تأتي أي نظرة مختلفة للعالم عبر الفن لتُسقط ورقة التوت التي يدارون بها عورات نصوصهم الكنائية الفوتوغرافية.

وضع صلاح المرّ للكتاب رسومات. هل كنت تفكر في التقليد الطِّباعي العربي العريق الذي يضع رسومات ومنمنمات بإزاء المتن الحكائي؟ (طبعات «ألف ليلة وليلة» البولاقية والشعبية، «كليلة ودمنة»، «مقامات الحريري»/ الواسطي)
- لم يكن ذلك بعيداً عن تصوري للشكل النهائي للكتاب، اقترحتُ صلاح المر لأني، كمتابع لتجربته، رأيت في أعماله إمكانية ترجمة الجانب الرؤيوي المتخلق لغوياً لتكوين تشكيلي بصري. مرت تجربتنا معاً بنقاشات عديدة لتصبح الرسوم في النهاية جزءاً من النص نفسه، ووجهاً بصرياً له وليس مجرد حليات مضافة أو مقحمة. هناك أيضاً الشكل الفني النهائي للكتاب، بما في ذلك الغلاف الذي صممه الفنان عمرو الكفراوي مستعيناً بحكاياتي وموتيفات المر معاً، ليخلق نصاً ثالثاً هو الغلاف الذي جاء مزجاً بين الإحالة التراثية والتصميم الفني الحديث.

يرى فيه البعض خدشاً للشعور الوطني المصري: هل تبقى شيء من الأطروحة الواقعية لنجيب محفوظ بإزاء الأطروحة «الشعرية» لإدوار الخراط؟
- ليس في الفن ما يجرح الشعور الوطني، والخراط مصري كمحفوظ فهو لا ينتمي لوطن آخر. في الحقيقة أرى أن محفوظ نفسه تجاوز أطروحته الواقعية للأبد بكتابة الثلاثية، وأرى أن أطروحاته الفنية اللاحقة، جميعها، ذهبت للشاعرية في اختباراتها المتعددة، سواء في سياق أليغوري رمزي كـ «أولاد حارتنا»، أو وجودي كروايات «الطريق» و«الشحاذ» و«اللص والكلاب»، أو في استنطاقه الميتافيزيقي عبر الكنائي، أو تحويل الكنائي لاستعاري كما في «الحرافيش» و«ليالي ألف ليلة»، وصولاً إلى إصابة الشعري التجريدي مباشرة في نصوصه الأخيرة مثل «أحلام فترة النقاهة» و«أصداء السيرة الذاتية». محفوظ البلزاكي انتهى للأبد بعد عام 1955، وحارة محفوظ القاهرية الكنائية في «زقاق المدق» صارت شارع العالم في جميع أعماله اللاحقة.


سيرة في سطور
طارق إمام من مواليد 1977. صحافي، وقصاص، وروائي، وناقد وكاتب أطفال مصري. من أعماله: «طيور جديدة لم يفسدها الهواء» (قصص، 1995)، «شارع آخر لكائن» (قصص، 1997)، «ملك البحار الخمسة» (قصص للأطفال، 2000)، «شريعة القطة» (رواية، 2003)، «هدوء القتلة» (رواية، 2015)، «الأرملة تكتب الخطابات سراً» (رواية، 2009)، «حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها» (قصص، 2010)، «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» (رواية، 2012)، «ضريح أبي» (رواية، 2013)، «مدينة الحوائط اللانهائية» (قصص، 2017). يجري تحويل روايته «هدوء القتلة» لفيلم طويل من إخراج أحمد حسونة