من حلب، المدينة السورية، التي تعاد الحياة إليها اليوم، بدأ الصحافي الراحل ومؤسس «دار الصياد» سعيد أمين فريحة (1912-1978) مسيرته المهنية عام 1928، ليدخل بعد سنوات نادي الرعيل الصحافي الاول في لبنان، ويصبح أحد روّاد صحافة الاستقلال. وقتها، لجأ مع عائلته إلى عاصمة الشمال السوري، هرباً من الحرب العالمية الأولى والمجاعة التي سببتها. عمل بداية في صالون حلاقة للسيدات عندما كان يبلغ 23 عاماً. نبوغه المبكر وحسّه الأدبي والشعري، خوّلاه أن تحتل مقالاته الصفحات الأولى من المجلات والصحف التي كان يكتب فيها، ومن ضمنها جريدة «الراصد». ومن غرفة صغيرة في منطقة «زقاق الأربعين» الحلبية، بدأ فريحة ممارسة هوايته الأحب الى قلبه: الكتابة. سرعان ما انخرط في المجتمع الحلبي، وراح يراسل صحفاً ومجلات في دمشق وبيروت، الى حين عودته الى لبنان، وتأسيسه مجلة «الصياد» (1943)، تزامناً مع بزوغ فجر الاستقلال. بدأ التأسيس للمجلة، التي تحولت بعدها الى أعرق الدور في الشرق الأوسط، من غرفة صغيرة في مبنى «الصمدي» في وسط بيروت، كانت جزءاً من مكاتب جريدة «الحديث». صدر العدد الأول من المجلة، في 24 صفحة، وقد خصّص رئيسا الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري والسورية شكري القوتلي رسالتين نشرتا في ذلك العدد، الى جانب افتتاحية دوّنها فريحة بعنوان «هذه المجلة»، عرّفت وقتها القراء إلى المجلة وخطتها وتطلعاتها العربية والقومية والوطنية. هكذا تعرّف هؤلاء على سعيد فريحة الصحافي والكاتب الساخر، وأيضاً صاحب الفلسفة الخاصة في الصحافة باعتبارها «وسيلة تعبير فكري ونضال سياسي وسلطة ديمقراطية أساسية»، الى جانب كونها «التزاماً وطنياً»، وهذا ما شدد عليه طيلة حياته. في محافل عدة، أكّد أن «الالتزام ضروري في الصحافة، (..)، على أن تكون الأخيرة ممارسة فكرية مستمرة تنشد الأفضل»، معتبراً «الالتزام أحد المقومات الأساسية التي لا بقاء لها ولا استمرار للصحافة في دونها». من زاوية «جعبة»، العمود الخاص بفريحة (مقال سياسي أدبي يحمل نقداً اجتماعياً وبعضاً من الدعابة وأدب الرحلات) في مجلة «الصياد»، بدأت الرحلة، ومسار الانتشار في العالم العربي: سوريا، مصر، السودان، والمغرب العربي، واستطاع من خلالها أن يبدأ ببناء «دار الصياد» عام 1954، من عائدات هذه الزاوية. قال مرة: «عملنا كتاباً سمّيته «الجعبة»، وأرسلت مئة جعبة الى مئة صديق، وجمعنا مئة ألف ليرة لبنانية، وعمّرنا «دار الصياد» بمئة ألف ليرة». بهذه العبارة اختصر الرجل بناء أكبر الصروح الصحافية لبنانياً، وحتى عربياً. صرح ضمّ «الشبكة» (1956) التي شكلت ذاكرة فنية عربية، وجريدة «الانوار» (1959)، وكرت سُبحة المجلات المتخصصة لاحقاً. وقتها، شيّد مبناه في منطقة الحازمية، وتعرّض مرات عديدة لإصابات مباشرة، خاصة إبان الحرب الأهلية اللبنانية، نظراً إلى موقعه الجغرافي المطل على بيروت، وعلى خطوط النيران المشتعلة في العاصمة. كذلك، إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، تعرض المبنى لقصف عشوائي، وألحقت به أضرار جسيمة، الى أن دُمّرت أجزاء كبيرة منه بعد عامين، بسبب القصف الإسرائيلي المباشر عليه، وأحاله مكاناً غير صالح للعمل الصحافي.
في السبعينيات، كانت «الشبكة» تبيع ستين ألف عدد في الأسبوع

فكان الرد واضحاً وحاسماً، في زيادة عدد الإصدارات، والمجلات المتخصصة، خصوصاً أنّ فريحة آمن بالصحافة المتخصصة ودورها المستقبلي. عنصر أسهم لاحقاً في ازدهار الدار، ونموّها، في وقت كانت فيه نسبة كبيرة من الصحافة اللبنانية (70%) تهاجر الى لندن أو باريس أو قبرص، وتقفل. كذلك زاد عدد المطبوعات في الثمانينيات، بعيد وفاة فريحة، وبعد تسلّم أولاده الثلاثة: إلهام، عصام، وبسام لمفاصل الدار، تنفيذاً لما كان يحلم به الأب المؤسّس دوماً بتوسيع «دار الصياد»، وزيادة عدد إصداراته من «فيروز» (1980) المجلة الشهرية التي تعنى بقضايا المرأة وشؤونها، مروراً بمجلة «الكمبيوتر والإلكترونيات» (1984)، المتخصصة في مجال التكنولوجيا والمعلومات، وصولاً الى مجلة «الفارس» التي تتوجه الى الرجل وتهتم بأناقته وأسلوب حياته... لا يمكن التوقف عند مسيرة فريحة و«دار الصياد» من دون استعادة المناخ الفكري والثقافي والفني الذي أرسته وأسهمت في صنعه، إذ خرج من عباءتها أعلام في الصحافة الفنية والسياسية. أحد صنّاع مجلة «الشبكة» والشهود على زمنها الذهبي، يقول لـ«الاخبار» إنّه في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، كانت «الشبكة» تبيع ستين ألف عدد في الأسبوع، وكان انتشارها على امتداد رقعة العالم العربي. من أسماء تلك المرحلة نذكر سليم نصار، وجورج إبراهيم الخوري، والشاعر الراحل جورج جرداق، وجان شاهين، وعبد الغني طليس... يقول المصدر الذي فضّل عدم ذكر اسمه: «كانت الشبكة «مملكة» واسمها كبيراً وذا سطوة مرعبة على الفنانين والداخلين الجدد إلى المهنة. كان الفنان حين يعلم أنّ مقالاً سيصدر عنه في المجلة، لا ينام الليل من الترقّب. وكان المستوى الأدبي فيها متفوّقاً حتى على المستوى الصحافي. مثلاً، جورج إبراهيم الخوري (1922 ـــ 2006 ــ رئيس تحرير المجلة لسنوات طوال) كان كاتب رواية، وهو الذي اخترع تقليد إلقاء الألقاب على الفنانين، وكانت علاقاته قوية بالفنانين، من عبد الوهاب وأم كلثوم إلى فناني لبنان. سياسياً أيضاً، كانت علاقة سعيد فريحة بعبد الناصر قوية جداً، لذا كان المصريون يعتبرون صحيفة «الأنوار» بيتهم».
اليوم، تقفل «دار الصياد» أبوابها، وتطوي 75 عاماً من عمر الصحافة اللبنانية والعربية، التي اتخذت من هذه المهنة مساراً ملتزماً بالقضايا الوطنية والعربية والقومية. في أزمة الحروب والصراعات الداخلية، آثرت الدار العريقة الصمود، ودفعت الثمن باهظاً. اليوم، وفي أزمة الصحافة في لبنان، تغلق آخر أبوابها، فاتحة عهداً أسود من هذه المهنة، التي بدأت تكرّ سبحة روادها في انتظار المشهد الأخير.