«وأنتِ يَا كَفرناحومَ المرتفعة إلى السماء سَتُهْبَطينَ إلى الهاوية».(إنجيل لوقا، 11 - 15)

السينما اللبنانية الجديدة، والفنون المعاصرة عموماً، أقامت منذ التسعينيات علاقة ملتوية وملتبسة بالواقع. كان متوقّعاً من جيل ما بعد الحرب، جيل القطيعة، أن يقصي الواقع، فيجعله خارج إطار الصورة ثم يروح يبحث عنه من الصفر، أو يتلاعب به، ويشتغل على الأرشيف، أو يجنح إلى التجريبيّة والغرابة والاستعادة الذاتية، أو يراهن على الجزئيات والتداعيات الحميمة. كان هذا الجيل يضع مسافة بينه وبين هذا «الواقع»، في محاولات لاستعادة الذاكرة ومساءلتها، ومحاكمة الحرب بأدوات من خارجها، ومن خارج لغتها. في كثير من تجارب العقدين الماضيين، صار الشكل هو الموضوع، وتحكّمت اللعبة السردية بالوثيقة، وكانت النتيجة أعمال تأسيسية محت الحدود بين الحدث واستعادته، بين حقيقة موضوعيّة (تسجيليّة) وحقيقة ذاتيّة مختلقة (روائيّة).
لذلك يفاجأ المرء للوهلة الأولى أمام «واقعيّة» فيلم نادين لبكي الثالث. فهي لم تعوّدنا على هذه المباشرة، على تلك القسوة. قد يؤرّخ «كفرناحوم» لمنعطف جديد في مسار السينما اللبنانية الجديدة، يمكن اختصاره بالتصالح مع الواقع، ليس فقط كموضوع، فهذا حاضر في أفلام كثيرة، بل كلغة، كأسلوب، كمدرسة فنيّة. في فيلميها الروائيين السابقين «سكر بنات» و«وهلأ لوين»، أسرفت لبكي في غوايتنا، بَنَت عوالم غرائبيّة، وصنعت سينما سحرية، وصوّرت لنا بيروت وناسها برومنسية، بلغة مؤسلبة من خلال رؤيا مثالية وطوباويّة. واعتقلت لبنان، بصراعاته وحروبه، داخل «بطاقة بريديّة»، رأينا في ذلك حينذاك، نوعاً من التعالي على الواقع، أو بالأحرى الهروب من الواقع. حتى أنّها خلقت موضة (صرعة) سينمائيّة، فأُنتج بعدها العديد من الأفلام التي تصوّر لبنان بأدوات «فولكلوريّة» ساذجة (إنما من دون لمسة نادين السحرية!). أما هذه المرّة، فتهبط بنا عنوة إلى قاع المدينة وعالمها السفلي الذي قد لا نتخيّل حتى وجوده. عالم المهمّشين والفقراء والمقتلعين والمتشردين واللاجئين والعمال والعاملات الأجانب والمهرّبين وسكّان مدن الصفيح، ومكتومي القيد والبلا أوراق شرعيّة و… أطفال الشوارع. صوّرت فيلمها بين النبعة والكرنتينا، مروراً بالكولا وسوق الأحد، بالقرب من مكب نفايات، وفي سجن رومية، ونظارة العدلية حيث تتكدّس أطياف بشريّة تائهة، بلا أفق ولا مستقبل.
بعيداً عن أي سياق ديني لـ «كفرناحوم» كما وردت في العهدين القديم والجديد، فإن إسم تلك المدينة السحيقة على ضفاف بحيرة طبريا، هو هنا، كما في روايات بلزاك، مجاز أدبي عن أرض الفوضى والخراب العظيم. ويمكننا أن نغامر ونقول، إن هذا الفيلم غير بعيد عن مدرسة «الواقعيّة الجديدة». فقد صورت لبكي (جزئيّاً) في ديكورات حقيقية. واشتغلت مع هواة ينتمون الى هذا الواقع جسّدوا أدوارهم الحقيقية، لتحصل على مشاهد تمثيليّة نادرة. بدءاً من بطلها زين، الطفل الهارب من جحيم الأسرة الفقيرة إلى متاهات العالم السفلي للمدينة. من دون أن ننسى العاملة الحبشيّة وطفلها. الحوارات كذلك مكتوبة بفجاجة ومباشرة تتوالد منهما «شاعريّة» خاصة. مشهد زين وهو يعرّي نهدي الدمية العملاقة التي تتوسّط دولاب مدينة الملاهي سريالي، تسرّب بلا شك من ذاكرة نادين السينمائيّة الخصبة. الثنائي هاروت ودعد مدهش… لكن الأهم في الفيلم هو التصوير بلا شك، على وقع موسيقى خالد مزنّر، وتناغم الايقاعات السريعة والأخرى البطيئة في المونتاج. الكاميرا المحمولة على الكتف تصيبك حركاتها بالدوار، منخفضة تارة إلى الحضيض، أو تلتقط مسرح البؤس من عل، وفي كل الاحوال تبقى لصيقة بالفقر والعنف واللوعة والقسوة. اللقطات المقرّبة غالباً من الوجوه والشخصيات، تشعرك بالاختناق، بضيق الأفق وقلّة الهواء.
نعم. هذا فيلم لبناني يستحق الاحتفاء به، كما يستحق نجاحاً عالمياً لم يدفع ثمنه مساومات سياسية وأيديولوجيّة. نأسف طبعاً لأنّ الفيلم يفقد شيئاً من قوّته وتماسكه، في الجزء الأخير. يبدأ التحوّل مع الاستنجاد ببرنامج اجتماعي رائج على محطة لبنانيّة، بحثاً عن منعطف للأحداث يفضي إلى النهايات السعيدة. وهذا يضرب كل خيارات «الواقعيّة الجديدة». لكنّها نادين… راقبوا ابتسامتها جيداً تفهمونها: إنّها مصرّة أن تفتح لنا كوّة الأمل، ولو على حساب الكمال الفنّي.