وهي تمثل أجيالاً عدة من فنانين بحرينيين ومصريين ولبنانيين معاصرين، وتنتمي إلى مدارس ومواد تعبيريّة متفاوتة كان بعضها عرض سابقاً في البحرين والقاهرة، قبل أن تضاف إليها أعمال جديدة وينتقل المعرض إلى لندن.
شخصية مؤلف كتاب «النبي» (1923) – التي يحتفل هذه العام بالذكرى 95 لنشرها للمرّة الأولى - كما يمكن أن تقرأ في اللوحات المعروضة، لا تمنحه مخرجاً للانعتاق من تلك الصورة الخرافيّة التي ألصقت بالرّجل عبر السنين، وتظافرت جهات عدة عبر مراحل تاريخيّة مختلفة في تلفيقها عنه يوماً بعد يوم، حتى كادت أن لا تشبه جبران الإنسان أو إطاره التاريخي مطلقاً. وإذا كان لا بدّ أن يلام في ذلك أحد، فلن يكون بالطبع تجار الفن النيوليبرالي المعولم الذين يحوّلون في ترويجهم التجاري المحض للفنون شخصيّات المشاهير ــ المرتبطة حكماً بمرحلة وفرد معينين ـــ إلى لغة معاصرة باهتة بيضاء محايدة منتزعة من جذورها، قابلة للتداول في بورصة الثقافة في أي فضاء كان. ولا تخرج الأسئلة التي يمكن أن تطرحها عن منطقة رماديّة غائمة تنفي كل شيء عن خصوصية ذلك الفرد، وحقيقة تجربته الإنسانيّة. كما لا يمكن بالطبع مساءلة منظمة المجتمع المدني الأميركيّة – والداعيّة للسلام العالمي – التي بحكم تموضعها السّياسي والحضاري والطبقي لن تجد أفضل من صورة جبران المؤسطرة تحديداً لتتخذها مركباً تروّج فيه لذلك التموضع، وتجني من ورائه أموالاً. لكن اللّوم – كل اللوم – يقع على عاتق الفنانين العرب الذين شاركوا في المعرض بأعمال لا شك في أن معظمها على الأقل محترف من ناحية لغة الفن البصريّة، لكنها افتقدت الشجاعة لتطرح أسئلة لجبران تخرجه من سجنه الرماديّ الذي توافق صناع الثقافة البرجوازيّة على إيداعه فيه منذ ما يقرب من ثمانين عاماً.
لم نرَ عملاً واحداً، يحكي جبران الفقير نتاج المجتمع العربي البائس في نهاية القرن التاسع عشر
لم نرَ عملاً واحداً في المعرض، يحكي جبران الفقير نتاج المجتمع العربي المُعثمن البائس في نهاية القرن التاسع عشر، أو جبران اليتيم الذي فقد أماً عنيدة مناضلة صارعت الذكوريّة والفقر والجغرافيا والمرض، أو جبران المناضل الذي كان يقتله هم نهضة الأمّة السوريّة ــ قبل أن يكون هناك لبنان كما نعرفه اليوم ــــ، أو جبران المنغمس في ملذات المشروبات وتعدد العلاقات الغراميّة، أو جبران العاشق اللعوب الذي أحرق قلب ميّ زيادة، أو جبران المسافر الرحالة الذي تنقل بين القارات والمدن والثقافات والأزمنة، أو جبران المفكر السّاذج الباحث عن حلول روحيّة تلفيقيّة لمشاكل مجتمعه، أو جبران المتأدب الذي يعبّر عن ذاته بلغة أجنبيّة.
هذه الاستقالة من طرح الأسئلة دفعت بلوحات المعرض للتعلق الجبان بسياقات الفضاء البصري - الفني حصراً من دون العبور إلى التجارب الإنسانيّة الأعمق، المنزرعة في قلب جبران الإنسان والرجل والتاريخ والمجتمع والجغرافيات، لتنتهي مجرد منتجات ثقافية تجارية منزوعة القيمة الفكريّة يقتصر تنقلها على سياقات نخبوية مغلقة (تاجر مزاد، ومنظمة مجتمع مدني، وفنان برجوازي، ومستهلك معولم). لم تكن أيُّ من وجوه جبران الكثيرة الحقيقيّة الإنسانيّة الجميلة هناك في لندن هذه المرّة، ومن الجليّ أنه من العبث البحث عنها في صالات المتاجرة النيوليبرياليّة بالفنون.