حكمت أولوية المواجهة مع الإمبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة جل المسيرة الفكرية والسياسية لسمير أمين (1931 ـــ 2018). ليس من المبالغة القول إن المفكر المصري/ العربي/ العالمي هو من أبرز رموز «مدرسة التبعية» التي قدمت تجديداً نظرياً هاماً في فهم الرأسمالية باعتبارها نظاماً إمبريالياً عالمياً منذ نشأتها. احتل سمير أمين موقع الصدارة بين من تمت تسميتهم ودياً «عصابة الأربعة» (تمثلاً بعصابة الأربعة في الصين التي ترأست الجناح اليساري في الحزب الشيوعي الصيني وقادت الثورة الثقافية) التي ضمت إلى جانبه اندريه غاندر فرانك وجيوفاني اريغي وإيمانويل فالرشتاين. فقد تميز صاحب «التراكم على الصعيد العالمي» و«التطور اللامتكافئ» و«فك الارتباط» و«ما بعد الرأسمالية» و«إمبراطورية الفوضى» و«من الرأسمالية إلى الحضارة» و«مذكراتي: يقظة الجنوب» و«السيادة في خدمة الشعب»، وهي بضعة عناوين بين عشرات الكتب ومئات المقالات، بالتفكير عالمياً واقتراح الحلول محلياً أي تحليل وشرح آليات السيطرة والنهب الإمبرياليين وتحولاتهما على صعيد عالميّ والمساهمة في بلورة استراتيجيات المقاومة انطلاقاً من موقع شعوب الجنوب وتطلعهم للتحرر الوطني والاجتماعي.لقد شكّل دحض السردية الغربية السائدة عن أسباب «تقّدم» و«تأخر» البلدان والشعوب حافزاً قوياً لأمين، الذي اعتبر في آخر مقابلة أجراها مع إذاعة «فرنسا الدولية» في أيار (مايو) الماضي أنّ «هاجسي الفكري والسياسي كان منذ بداية التزامي هو المساهمة في تقديم تفسير للحال التي وصلت إليه حضارات عريقة كمصر والهند وإيران والصين وتحولها إلى مستعمرات وأشباه مستعمرات، بلدان تسمى «متخلفة»، تعيش شعوبها في فقر مدقع وترزح تحت نير السيطرة الإمبريالية. لقد تمحورت أطروحتي للدكتوراه، التي اخترت لها عنوان «التراكم على الصعيد العالمي»، حول هذا الموضوع. أردت أن أبرهن أنّ «التنمية» و«التخلف» ليسا سوى وجهين لعملة واحدة وأنّهما نتاج للتوسع العالمي للرأسمالية». لم تكن السردية الغربية وحدها تروج أن «تأخر» أو «تخلّف» شعوب الجنوب بشكل عام، والشعوب العربية والإسلامية بشكل خاص، يعود أساساً إلى أسباب داخلية، مرتبطة بطبيعة البنى الثقافية والسياسية السائدة، بل إن قسماً كبيراً من مفكري عصر النهضة، وحتى بعض المفكرين الإسلاميين، كانت لديه قناعات مشابهة. يكفي للتأكد من ذلك مراجعة الإجابات التي قدمت على التساؤل حول أسباب تأخر المسلمين (أو العرب) وتقدم غيرهم. وما زالت أطروحات مشابهة تجتر إلى اليوم من قبل مثقفين ليبراليين، ويساريين وإسلاميين سابقين. أما سمير أمين، فقد أكّد باستمرار الدور الحاسم للعوامل الخارجية، المرتبطة بتحولات موازين القوى الدولية وسياسات الحرب والتوسع والسيطرة والاستتباع التي اعتمدتها القوى الإمبريالية، في ما آلت إليه أوضاع دول وشعوب الجنوب وكيفية قيام القوى الاستعمارية بإعاقة تقدم دول كالصين والهند بعد غزوها، وهي التي كانت بمثابة محترف العالم حتى أواخر القرن الثامن عشر قبل الغزو، أو ضرب مشروع التحديث الذي قاده محمد علي باشا في مصر عبر التدخل العسكري المباشر. ولا شك أنّ السيرة الشخصية لأمين كان لها تأثير هام في تكون وعيه المبكر لحقيقة نظام السيطرة الإمبريالي. فهو ولد عام 1931 وعاصر تصاعد الصراع بين الحركة الوطنية المصرية والاستعمار البريطاني. وأمضى طفولته ومراهقته في بورسعيد، المدينة التي بدأت في أواسط القرن التاسع عشر مخيّماً للفلاحين المصريين الذين استقدموا من الريف لحفر قناة السويس ولعائلاتهم، وقضى حوالى مئة وعشرين ألفاً منهم في عمليات الحفر، وتحولت بعد ذلك يضاً إلى ميناء لجلب الآلات والتجهيزات الضرورية للحفر من الغرب. المدينة الخاضعة لسيطرة الشركة العالمية لقناة السويس والمطلة على هذه الأخيرة، التي أصبحت منذ حفرها شرياناً حيوياً للنظام الرأسمالي العالمي سرع بشكل هائل عملية توسعه عبر تدفق السفن الحاملة لسلعه أو جنوده باتجاه مختلف أرجاء المعمورة، قدمت نموذجاً مصغراً عن هذا النظام حيث تحكمت أقلية غربية بيضاء مترفة بمقدرات ومصائر آلاف المصريين المعدمين. لقد كان لهذه السياقات الاجتماعية والسياسية وقع كبير على جيل كامل من المصريين، ومنهم سمير أمين، دفعتهم للنشاط السياسي في سن مبكرة طلباً للاستقلال والتحرر.
التطورات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، أثبتت صحة فرضياته الرئيسية حول طبيعة النظام الرأسمالي الإمبريالي


انحياز سمير أمين اللاحق للنموذج الصيني على حساب النموذج السوفياتي لم يأتِ فقط نتيجة للموقف الأكثر جذرية للصين في معاداة الإمبريالية ودعم حركات التحرر الوطني في الفترة الممتدة بين أواسط خمسينات القرن الماضي وبداية سبعيناته، بينما كان الاتحاد السوفياتي يتبنى سياسة التعايش السلمي، بل نتيجة اقتناعه بأنّ ظروف الصين، التي سبقت انطلاق ثورة التحرر الوطني والاجتماعي، المشابهة لظروف بقية دول الجنوب المستعمرة أو شبه المستعمرة تجعل منها مصدر إلهام للحركات الثورية في هذه الدول. وقد ساعدت معرفة أمين الدقيقة والعميقة للتجربة الصينية في بلورة مفهومين أساسيين ومترابطين في نظريته السياسية والاقتصادية: «فك الارتباط» مع منظومة التبعية الغربية والتنمية المتمحورة حول الذات. عوامل كثيرة تفسر صعود الصين إلى مصاف القوى الكبرى اليوم بينها دون شك حجمها القاري وإحسانها استغلال التناقضات الجيوسياسية الدولية بين الاتحاد السوفياتي والقوى الغربية في فترة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين للحصول على نقل للتكنولوجيا الغربية مقابل انحيازها ضد السوفيات. لكن القاعدة الاقتصادية الزراعية والصناعية التي كانت قد نجحت في بنائها بعد انتصار الثورة ضمن استراتيجية تنمية متمحورة حول الذات، مكّنتها من عدم الوقوع في أسر التبعية للقوى الغربية. لقد أثبتت التطورات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة صحة الفرضيات الرئيسية لسمير أمين حول طبيعة النظام الرأسمالي الإمبريالي، وحول أسس أي استراتيجية جدية للتحرر من سيطرته وستبقى إسهاماته الفكرية مرجعاً إجبارياً لجميع المناضلين من أجل الاستقلال الوطني الحقيقي والعدالة الاجتماعية.