باريس | قبل أسبوعين من رحيله المفاجئ، اتصل بي صديقي سمير أمين ليطلب مني بإلحاح شديد غير معتاد نشر ندائه الأخير من «أجل ضرورة إعادة بناء أممية العمال والشعوب» على موقع مجلة «أفريكازي» الذي كان عضواً في هيئة تحريرها. وكان له ما أراد (١).وعند قراءتي هذا النص الطويل الذي يكاد يشبه الوصية السياسية، انتابني بعض التوجس رغم عدم وجود أية دلائل تشير إلى إصابته القاتلة بسرطان الرئة وانتقاله الصاعق إلى الدماغ. ذلك أن الهم العام كان يطغى على فكره ونشاطه مما كان يشغله عن الاهتمام الكافي بما كان يعتبره شؤوناً خاصة هامشية. كان الشأن السياسي والنشاط النضالي الدعوي يتملكان كل طاقته، خاصة بعدما أكمل تطوير نظريته الاقتصادية المجددة في الفكر الماركسي في سلسلة من الكتب كان أبرزها «التراكم على الصعيد العالمي» (١٩٧٠) (2) الذي أتبعه عام١٩٧٣ بآخر توضيحي حول «التطور اللامتكافئ» (3)، وهو عبارة عن دراسة عن التكوينات الاجتماعية لرأسمالية الأطراف، تتعارض مع بعض الأطروحات الماركسية الأورثودكسية المتكلسة القائلة بأن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا انطلاقاً من المركز الرأسمالي.بالنسبة إلى سمير أمين، فالتناقض الرئيس اليوم في النظام الرأسمالي العالمي هو ذلك الذي يتواجه فيه المركز المتطور والمهيمن (الولايات المتحدة أساساً وتوابعها الأوروبيون واليابان) ضد أطرافه النامية والتابعة (التي ليست سيدة أمرها) التي تشكل ما كان يسمى تعميماً العالم الثالث. والتحول والتغيير الجذريان لا يمكن أن ينطلقا إلا من الأطراف، رهينة تطور غير متكافئ حتى الآن، ومن خلال قيام تحالف موضوعي جنوب – جنوب، خاصة في ظل أزمة الرأسمالية المعولمة التي كلما اقتربت من الانفجار تزداد توحشاً وعدوانية.
ليس موضوعنا الآن بالطبع الدخول في تفاصيل وحدود هذه النظرية الاقتصادية المتكاملة التي كانت وما زالت رائدة ومجددة في تحليل تناقضات وحدود النظام الرأسمالي وأزماته الدورية التي ستنتهي في آخر المطاف بانهياره الحتمي. من خلال نضاله، تنظيماً وكتابة وتعبئة لقوى التغيير في الجنوب (أفريقيا، آسيا وأميركا اللاتينية)، كان سمير أمين يؤمن بقوة ويعمل بلا كلل على التسريع بهذه المرحلة التاريخية المنتظرة. لذلك كنا نراه على رأس كل المظاهرات والنشاطات المناهضة للعولمة، من بورتو أليغري في البرازيل، مروراً بالهند والصين والجزائر والسنغال وفنزويلا وبوليفيا وجنوب أفريقيا... كما أن كل كتاباته اللاحقة، وما أغزرها، كانت في خدمة هذا الهدف.
لكن سمير أمين سرعان ما أدرك أن هذه العولمة البديلة Altermondialisme أصبحت هدفاً لمحاولات الهيمنة الغربية على أجنداتها، لتسخيرها مداورة لخدمة الإيديولوجية السائدة وحرفها عن محاربة العدو الحقيقي للجنوب، المتمثل في الاليغارشية الاحتكارية العالمية التي تتحكم بنظام العولمة المتوحشة. وحصان طروادة هذه المحاولات الاستيعابية والالتفافية، كان يتمثل في الحركات المنبثقة من قلب الغرب الغني ومن طبقاته الوسطى الرافضة لنمط الحياة الاستهلاكي الذي يفرضه عليها المجتمع الليبرالي ولكنها غير عابئة بالمشكلات الحقيقية للطبقات الشعبية في مجتمعاتها الغربية نفسها وبشكل أوسع وأعمق في بلدان الجنوب. وغالباً ما تسعى هذه الحركات الغربية ذات الإمكانيات المالية الكبيرة المنخرطة في تجمعات العولمة البديلة، إلى فرض رؤيتها «المعتدلة» على سائر الحركات المنبثقة من الجنوب خاصة بالنسبة إلى قضايا أساسية مثل مناهضة الصهيونية والدفاع عن سيادة الدول والشعوب والتنمية المستقلة ورفض تسخير قضايا حقوق الإنسان لتبرير التدخلات العسكرية المباشرة لتغيير الأنظمة… وفي كثير من الأحيان كادت هذه الخلافات أن تخرب أكثر من منتدى.
ولا بد من الإقرار بأن الخطر الداهم الذي يهدد مجرة حركات العولمة البديلة، كما استنتج سمير أمين في مقال له نشره في مجلة الـ «لوموند ديبلوماتيك» على هامش التئام منتدى نيروبي المناهض للعولمة الليبرالية من ٢٠ الى ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧ «لا يأتي فقط من هذه الحركات المعتدلة التي ترفض الانجرار نحو تبني مواقف جذرية لتعميق النضال وتحديد أدواته وأهدافه بدقة»، بل أيضاً من الحركات الصغيرة الراديكالية التي تسعى لفرض نفسها على الآخرين كـ«طلائع» ثورية «ترفض كل نقد وتتعامى عن رؤية التحولات السريعة في المجتمعات المعاصرة».

من باندونغ إلى البحث عن عولمة بديلة
ورغم مساعيه البراغماتية الظاهرية لتأسيس أعرض تحالف ممكن للقوى المناهضة للعولمة أو المتضررة منها، كما كان يحرص على ذلك في إطار المنتديات العالمية الاجتماعية، فسمير أمين لم يحد قيد أنملة عن رؤيته الأصلية لطبيعة تناقضات الرأسمالية وعن حتمية انهيار هذا النظام الذي يعتبره في مرحلة متقدمة من التفكك. ولعل الأزمات البنيوية المتكررة التي تعصف دورياً بهذا النظام وتفاقم التناقضات الداخلية بين من يفترض أنهم من المستفيدين منه، وصعود التيارات الرافضة له في عقر داره لا بل حتى في مركزه الرئيسي، الولايات المتحدة تحديداً، زادته في الفترة الأخيرة تشبثاً برؤيته، خاصة بالنسبة إلى نقطة جوهرية قائمة على احترام سيادة الدول والشعوب في اختيار طريقها الخاص نحو الانخراط في العولمة الإنسانية غير القائمة على شريعة الغاب.
في حزيران (يونيو) ٢٠١٥، أصدر سمير أمين مذكراته (4) عن دار نشر فرنسية تحت عنوان: «مذكرات – يقظة الجنوب» وفيه يروي قصة حياته ونضاله وتطور مواقفه عبر الأحداث الكبرى التي كان شاهداً عليها أو مشاركاً فيها.
وكان أمين قد أصدر من فرنسا عام ١٩٦٦، تحت توقيع حسن رياض، كتاباً نقدياً قاسياً للتجربة الناصرية وصل فيها إلى استنتاج متسرع خلاصته أنها بصفتها ثورة برجوازية وطنية قائمة على بيروقراطية الدولة لا يمكن أن تقود مصر إلى الاشتراكية، وهي محدودة بطبيعتها الطبقية والأيديولوجية (برجوازية صغيرة). لكنه - وقد يكون ذلك بسبب الخلاف الذي حصل قبل ذلك بين الحزب الشيوعي المصري وبين جمال عبد الناصر – تجاهل الطبيعة المعادية للاستعمار للتجربة الناصرية والتي بدونها لا يمكن أن تقوم قائمة لأي بناء اشتراكي. وقد اعترف أمين ضمنياً في مقابلة تلفزيونية (5) أجريت معه حول مذكراته بهذا القصور في التحليل عندما قال: «كان مؤتمر باندونغ حدثاً تاريخياً كبيراً في التاريخ الإنساني. والسؤال الذي طرحناه نحن الشيوعيين على أنفسنا آنذاك كان التالي: من الذي سيقود حركات التحرر الوطني المتنامية بقوة في الجنوب؟
إنها لمهزلة أن نرى أمير قطر وملك السعودية يقدمان نفسيهما كبطلي تشجيع الديمقراطية

هل هي البورجوازية الوطنية القائمة في هذه البلدان أو الطبقات المرشحة لأن تصبح بدورها بورجوازية وتسيطر على جهاز الدولة وتحاول، من خلال النظام الرأسمالي وبواسطة الأدوات الرأسمالية أن تفرض نفسها في وجه الإمبريالية المهيمنة كمحاور أولاً وشريك ندّي لها لاحقاً؟ لم نكن نؤمن بهذا الطريق في السير نحو الاشتراكية على عكس السياسة السوفييتية الجديدة. أما الشيوعيون الصينيون، فكانوا يرفضون البحث في هذه القضايا ونصحنا شو ان لاي، عن طريق أحد مستشاريه أثناء مؤتمر باندونغ: «فكروا بأنفسكم!»… من ١٩٥٢ إلى ١٩٥٥ لم يتميز النظام الناصري بمعاداته للامبريالية. وكانت الأوهام السائدة آنذاك هي أن بالإمكان تماماً تحقيق التنمية عن طريق الرأسمال الأجنبي. ولم يدرك عبد الناصر بطلان ذلك إلا في باندونغ. وأعتقد أنه كان لشو إن لاي دور كبير في هذا التغيير. في باندونغ، حدث ما كنا نعتقد أنه من رابع المستحيلات، أي أن الأنظمة التي كنا نعتقد أنها لا تريد مناطحة الامبريالية تجرأت ودخلت في صراع مرير معها».
لكن باندونغ ترنح وفقد اندفاعته بعد حوالى عقدين، لكن روحه ألهمت الموجة الجديدة من قادة الجنوب وعلى الأخص في أميركا اللاتينية. كان باندونغ، يقول سمير أمين، جبهة رفض للعولمة كما كانت في تلك الحقبة. الآن تغيرت أشكال العولمة، ومن الطبيعي أن تأخذ أي جبهة رفض جديدة، أو أي باندونغ جديد، هذه التحولات في الاعتبار. والواقعية تفرض علينا أن تقوم استراتيجية المجابهة هذه ليس على القضاء على الامبريالية المهيمنة تقريباً على كل شيء، بل على إرغامها على التراجع. وهذا ليس ممكناً إلا بالعمل على استرجاع السيادة كشرط أولي لتحقيق الاستقلال والحرية والديمقراطية مفهوماً ومضموناً.

الإسلام السياسي
القضايا التي استوعبت كل طاقة سمير أمين، بالإضافة إلى تنظيم المنتديات العالمية الاجتماعية والمشاركة فيها، أكثر من أن تعد: من كوبا إلى فنزويلا والبرازيل والاكوادور وبوليفيا مروراً بالصين وفيتنام والهند وروسيا وإيران وانتهاء بأفريقيا والعالم العربي. ولا شك أن ما سمي بالربيع العربي، الذي ولد لديه في البداية آمالاً عريضة قبل أن تتحول سريعاً إلى خيبة مرة أمام مشهد الدمار الشامل الممنهج الذي خلفته وراءها وما زالت. وعندما كان يُسأل عن ظاهرة الإسلام السياسي، كان دائماً يوضح أنها قبل أي شيء ظاهرة سياسية بحت، وأصحابها أبعد ما يكون عن الإسلام كدين. ففي حديث مطول معه حول هذا الموضوع، بعد وصول النهضة والإخوان المسلمين إلى السلطة، فاجأني باستنجاده بعبد الناصر ليشرح موقفه من هذه الحركات التي نشأت من رحم الوهابية وجمعية الإخوان المسلمين وتتبنى في فكرها الاقتصادي الرأسمالية المطلقة وفي نهجها السياسي التحالف مع الغرب الامبريالي وفي برنامج حكمها لفاشية العارية... عندما بادرت المملكة العربية السعودية في منتصف الستينات إلى الدعوة لتأسيس «الحلف الإسلامي»، بتأييد علني من شاه إيران وملك الأردن وتونس بورقيبة وباكستان، وبتشجيع واضح من الولايات المتحدة، رأى عبد الناصر في هذا المشروع المشبوه مؤامرة لتحطيم جبهة الجنوب وتدمير روح باندونغ. «نحن لا نتحالف على أساس مذهبي. فنحن حلفاء مع الهند والصين وأميركا اللاتينية على الرغم من أنها غير إسلامية. وتربطنا بالقارة الإفريقية أقوى الوشائج
على تعدد أديانها وطوائفها»!
هل معنى ذلك استحالة قيام أي شكل من أشكال التحالف والحوار مع هذا الإسلام السياسي؟ بالنسبة لسمير أمين، هؤلاء لا يمثلون الإسلام البتة. هناك إسلام التحرر كما مثله المفكر السوداني الإسلامي محمود محمد طه الذي أعدمه نظام النميري بتحريض من حسن الترابي عام ١٩٨٥. المشكلة ليست مع الإسلام والمسلمين، إنما في حركات تتلبس بلباس الإسلام وهي في جوهرها فاشية، متحالفة مع الغرب الامبريالي. سمير أمين كماركسي متمرس بالجدلية، كان يرفض المواقف الأخلاقية الزائفة التي تستعمل المبادئ للتستر على الحقائق والوقائع الباردة التي عادة ما تكون غير أخلاقية. ولعل رفضه اعتبار الربيع العربي ثورة حقيقية شعبية منذ البداية كان نابعاً من هذه المقاربة الجدلية. عندما سألته صحيفة شيوعية فرنسية عن تحليله للحرب في سوريا بعد حوالى السنة من اندلاعها، أجاب:
«الحل الوحيد يمر عبر إصلاحات جوهرية لمصلحة القوى الشعبية والديمقراطية المتواجدة في الداخل والتي ترفض الانجرار وراء الإخوان المسلمين. إنها لمدعاة للضحك أن نرى الآن أمير قطر وملك السعودية يقدمان نفسيهما كبطلي تشجيع الديمقراطية (عند الآخرين). من الصعب أن نشاهد مسرحية أكثر هزلية من هذه» (6).

* رئيس تحرير مجلة «أفريكازي»

مراجع
1 - L’indispensable reconstruction de l’Internationale des travailleurs et des peuples « http://www.afrique-asie.fr/lindispensable-reconstruction-de-linternationale-des-travailleurs-et-des-peuples/
2 - Samir Amin, L’accumulation à l’échelle mondiale, Editions ANTHROPOS, Paris, 1970.
3 - Samir AMIN Le développement inégal Essai sur les formations sociales du capitalisme périphérique Paris de Minuit 1973
4 - Mémoires de Samir Amin : L’éveil du Sud (Les Indes savantes – juin 2015).
5 - Mémoires des luttes : Une heure avec Samir Amin : L›Éveil du Sud https://www.youtube.com/watch?v=pK2kzJ-2q1o
6 - Réveil communiste :Rencontre avec Samir Amin Rencontre avec Samir Amin : « Washington ne veut pas libérer la Syrie, mais l’affaiblir. http://www.reveilcommuniste.fr/article-rencontre-avec-samir-amin-washington-ne-veut-pas-liberer-la-syrie-mais-l-affaiblir-100526113.html