بعد انقضاءِ 61 عاماً على رحيله، وبعد أَن كاد النسيانُ يحجبُ وجهه الأَدبيَّ والشِّعريَّ العملاق بفعل الظُّلم والجهل والتعصُّب، يهبطُ الشاعر حليم دمُّوس من عليائه، على أَجنحة الشعر، ويحطُّ رحالَه عند منبرٍ من منابر جامعة الأَزهر، واضعاً بذلك حدّاً للظلم الذي أَلحقَه به أَبناءُ بَجْدتِه طوالَ أَكثر من نصف قرنٍ من الزمن.
تعرّض لشائعات أَطلقَتْها السُّلطةُ اللبنانيَّة وسجن مرات عديدة

«بُلبُلُ المنابر» كان لقبَهُ الأَشهَر في جُملة أَلقابٍ عدَّة أَسبغَها عليه نُخبةٌ من مُعاصريه مِمَّن قدَّروا شاعريَّته ورِفعة فكره ونُبلَ أَهدافه حقَّ قَدْرِها. لقد كان بالفعل نظيرَ بُلبُلٍ هابطٍ من جنَّة الجنَّات، تُفصحُ أَغانيه عن روحٍ مُتساميةٍ مجبولةٍ بحُبِّ الله وأَنبيائه، وبحُبِّ الإنسانيَّة، ومَنذورةٍ لإسعاد أَبناءِ الحياة، وإرشادهم، وإنارة سُبُلهم، وتوحيد قلوبهم على المبادئ والأَهداف الرفيعة. وكان عن جدارةٍ شاعرَ الروح الذي احتضَن الأَديانَ السماويَّة المُنزَلة في قلبه وفكره وقلمه، وأَسكنَ وجوهَ الأَنبياءِ في مخيِّلته، فلم يَستثنِ ديناً من الأَديان أَو نبيّاً من الأَنبياء من إيمانه، على الرغم من كونه مسيحيَّ المولد والنشأَة. فغنَّى أَمجاد النبيِّ محمَّد بقَدْر ما غنَّى أَمجاد السيِّد المسيح والرسُل، وأَطلقَ صرخةً مُجلجِلة شاءَها أَن تُعيدَ حقيقة الوحدة الدينيَّة ووحدة الأُسرة البشريَّة إلى الأَذهان، وأَن تُزلزلَ أَركانَ التعصُّب والتفرقة في النفوس. وما كان أَحوجَ عالَمنا إلى صرخته تلك! ويا ليت البشر أَصغوا إليها بعدما جسَّدَها في قصيدته الخالدة «نشيد الملحمة العربيَّة»، قائلاً:
فوالله لو يدري الورى كُنْهَ دينهم/ لَما فرَّقوا ما بين عيسى وأَحمدِ
ولا أَطلقـوا يوماً قنابلَ مِدفـع/ ولا صَقلُوا للحَرب حَدَّ مُهنَّدِ
فأَنتَ أَخي ما دامَتِ الأَرضُ أُمَّنا/ وأَنتَ أَخي بالروح قبل التجسُّدِ
لعَمـرُكَ ما الأَديانُ إلاَّ نوافـذٌ/ تَـرى اللَّهَ منها مُقلـةُ المُتـعبِّدِ
تعالـيمُ إصلاحٍ وعَدلٍ ورحمَـةٍ/ فلا تَجعلُـوا منها سِلاحاً لِمُفسدِ
سأَنشُرُها في الخافقَيْنِ مَلاحمـاً/ على نَسْجِ «حسَّانٍ» ونَغمَةِ «مَعبدِ»
وأُلقي بُذورَ الحُبِّ في كلِّ بِيعَـةٍ/ وأُلقي بُذورَ الحُبِّ في كلِّ مَسجدِ
وأَلمُسُ في القرآن عيسى ابنَ مريَمٍ/ وأَلمـحُ في الإنجيلِ رُوحَ مُحمَّـدِ.
وإذا كانت يدُ الظُّلم والجهل قد حالَتْ دون إقبال الدارسينَ والنقَّاد على نتاجه الأَدبيِّ والشِّعريِّ والصحافي لاستخراج الدُّرَر المخبوءَة في حناياه، فإنَّ عودته الميمونة إليها كانت بفضل طلبٍ تقدَّم به المعيد البنداري عيد البنداري طايل، في أَواخر عام 2014، إلى جامعة الأَزهر، لتسجيل بحثٍ بعنوان: «حليم دمُّوس شاعراً»، على أَن يكون رسالته لنَيل درجة التخصُّص الماجستير في اللغة العربيَّة، في قسم الأَدب والنقد. وقد وُفِّق الباحثُ في تسجيل موضوعه، فكان ذلك انتصاراً للشاعر الظَّليم على ظُلاَّمه، وانتصاراً للحقيقة على الباطل.
وفي 28 آذار (مارس) 2017 وافقَت الجامعة على تشكيل لجنة الحكم والمناقشة الخاصَّة بالرسالة، على أَن تتمَّ مناقشتُها صباح يوم الأَربعاء 19/4/2017.
وقد رأَيتُ، من باب الوفاء، أَن أُنوِّه، في هذا السياق، بجميل الأُستاذ الدكتور هشام محمَّد محمَّد البيه على الباحث والرسالة معاً، وعلى جميع الذين سيقرأُون تلك الرسالة في مستقبل الأَيَّام. فهو الذي وضعَ مؤلَّفات الشاعر بين يدَي الباحث، طالباً إليه أَن يطَّلع عليها، ويقرِّرَ ما إذا كانت توافقُ هَواه بحيث تكونُ موضوعَ رسالته العتيدة. وما كان ذلك ليَحدُث لولا أَنَّ الأُستاذ الكريم قد انجذَبَ، هو نفسُه، إلى تلك النفحات الروحيَّة والإنسانيَّة التي خلَّفَها الشاعر من روحه في شِعره، ولولا أَنْ هزَّتهُ قوَّةُ شاعريَّته وصدقُ طويَّته. ولا شكَّ في أَنَّ الجرأَة الأدبيَّة والفكريَّة التي يتمتَّعُ بها قد جعلَتْه يتخطَّى كلَّ الشائعات الكاذبة التي أَطلقَتْها السُّلطةُ اللبنانيَّة ورموزُ التعصُّب في لبنان حول حليم دمُّوس بسبب تأثُّره بفكر الدكتور داهش، المُناهضِ للتعصُّب الدينيِّ والمذهبيِّ والعرقيّ، والمُنادي بوحدة الأديان ووحدة الأُسرة البشريَّة، وأَحد أَبرز مُمثِّلي الأَدب الإنسانيّ في القرن العشرين. وكان ذلك قد حدثَ في واحدٍ من أَكثر العهود ظلاميَّةً وفساداً ومحسوبيَّةً وتضييقاً على الحرِّيَّات في لبنان (1943-1952)، وأَدَّى إلى اضطهاد الدكتور داهش وتَجريده من جنسيَّته اللبنانيَّة ونَفيه خارج وطنه، بالظُّلم والاعتداء، وخلافاً للدستور والقوانين. كما تسبَّب بسَجْن الشاعر الحليم خمس مرَّاتٍ، مدَّة 300 يومٍ ويوم، دون أيِّ ذَنْبٍ جناه، وبالتعتيم على نتاجه الأَدبيِّ والشعريّ الفذّ سنواتٍ طويلةً، خلال حياته، وبعد رحيله.
والجديرُ بالذكر أَنَّ هذا الموقف المشرِّف للأُستاذ البيه قد رفدَتْه جامعةُ الأَزهر، من جهتها، بموقفٍ موضوعيٍّ لا يقبَلُ المَساسَ بالحرِّيَّات، أَو الانجرار خلفَ المعلوماتِ المغلوطة بحقِّ أَصحاب الفكر.
وفي 19 نيسان (ابريل) 2017، اجتمعَت لجنة الحكم والمناقشة في كلِّيَّة الدراسات الإسلاميَّة والعربيَّة بدمياط الجديدة، بَنين، جامعة الأَزهر، بحضور عددٍ من الأَساتذة والمهتمِّين، فتَلا الباحث البنداري مقدِّمة رسالته، قائلاً في مطلعها «إنَّ الأَدبَ العربيّ على مدار التاريخ قد حَفلَ بعددٍ كبيرٍ من الرموز والأَعلام الشاعرة الذين أَغفلَتهم الأَقلام وأَهملَتهم الأَبحاث، بِمَن فيهم الشاعر حليم إبراهيم دمُّوس الذي يُعَدُّ علَماً بارزاً من أَعلام الشِّعر العربيّ في العصر الحديث. وبدافع الرغبة في إحقاقِ الحقّ، عمدتُ إلى دراسته دراسةً جادَّة تعتمدُ على دراسة الأَغراض وتحليل النصوص، وإلقاءِ الضوء على قُدراته الفنِّيَّة، مُلتزماً الحياد والموضوعيَّة في كلِّ كلمةٍ، وفي كلِّ جملة، لعلَّ ذلك يُعوِّضُ شيئاً مِمَّا أَصابهُ من ظُلمٍ وإهمال».
بعد ذلك، أَشار الباحثُ إلى كيفيَّة حصوله على دواوين حليم، وعلى المصادر والمراجع اللازمة للبحث، بالقول: «وبعد تنقيبٍ وطول بَحثٍ، علمتُ أَنَّ نِتاجَ الشاعر المطبوع والمخطوط موجودٌ في المكتبة الداهشيَّة الخاصَّة في مدينة نيويورك، فقمتُ بالتواصل مع الأُستاذ ماجد مهدي، مُمثِّل (الدار الداهشيَّة للنشر)، فقام مشكوراً بِمدِّي بما لم أَتمكَّن من الحصول عليه من دواوين حليم الشعريَّة. كما حصلتُ على المصادر والمراجع والدوريَّات والرسائل الجامعيَّة التي أَفادَتني في الدراسة».
ويُلخِّصُ الباحثُ في مقدِّمته كيفيَّة استعراضه مراحلَ حياة الشاعر، ومكوِّناته الثقافيَّة، وآثاره الأَدبيَّة، ووقوفه على أَبرز أَحداث عصره التي كان لها أَثرٌ كبير في توجيه حياته ونتاجه الشعريّ. ثمَّ يَعرضُ موضوعات شعره التي تناولها بالبحث، وهي شعرُ الرثاء، وشعرُ الإخوانيَّات، والشعرُ السياسيّ، وشعرُ الوصف، والشِّعرُ في المرأَة، والشعرُ الدينيّ، وشعرُ المديح. ويُضيفُ قائلاً إنَّه قد أَلحقَ بتلك الموضوعات الدراسة الفنِّيَّة والمنهج الذي اعتمدهُ فيها. وقد أَشار، في السياق نفسه، إلى ما تركه الدكتور داهش وفكرُه من أَثرٍ كبير في حياة حليم وأَدبه وشعره، بالقول: «إنَّ البحث قد أَظهرَ أَهمَّ محاور الشعر الدينيّ التي اتَّكأَ عليها الشاعرُ في نَظْمِه، والتي تمثَّلَتْ في حُبِّ الذاتِ الإلهيَّة، وشعر المديح النبويّ، والزُّهد والحكمة، وتوحيد الأَديان. وهذه المحاور لم تكنْ غيرَ أَصداءٍ ضاقَتْ بها نفسُ الشاعر بعدما أَرهقَها الشرود، وأَمرضَها التمرُّد، فباحَ بها في شعره مُبتهلاً، ومُناجياً، ومُلتمساً العفوَ والمغفرة، عارجاً في معارج الروح العليا، مُزيِّناً شِعرَه بلمحاتٍ من الزُّهد وشذَراتٍ من الوعظ بعد مقابلته التاريخيَّة مع (الدكتور داهش)، والتي تُمثِّلُ نقطةَ تحوُّلٍ في حياة حليم وأَشعاره».
أَحد أَبرز مُمثِّلي الأَدب الإنسانيّ في القرن العشرين


بعد تلاوة المقدِّمة والانتهاءِ من المناقشة، قرَّرَت اللجنة مَنحَ الباحث درجة التخصُّص الماجستير بتقدير ممتاز. والحقّ أَنَّ هذا القرار قد مَحا ليلَ الظُّلم الطويل الذي حجَبَ وجه حليم دمُّوس عن لبنان والعالَم العربيّ، وأَعاد الشاعر إلى منبره، ورفع نتاجه الأَدبيَّ والشعريَّ العملاق إلى أَعلى مقام، واضعاً إيَّاه في متناول النقَّاد والدارسين، بالإضافة إلى الطبقات المُثقَّفة وعامَّة الناس، على حدٍّ سواء. ويقيني أَنَّه، في اللحظة التي تُليَ فيها، تبدَّل موقفُ التاريخ من حليم دمُّوس، فانقلبَ ليلُه صُبحاً، وظُلمُه عدالة! كما تحقَّقَ حَدْسُ الشاعر نفسُه الذي دوَّنه في أَربعينيَّات القرن الماضي، معلناً فيه انتصار كلمته، وإشراقة شمس شِعره، مهما طالَ ليلُ الظُّلم. فهو، مُذذاك، كان يرى بعين روحه، وهو خلفَ قُضبان سِجنه، ما ينتظرُ قبَساتِ شِعره ونثرِه من سلاسلَ وقيودٍ تَحُولَ دون بلوغها الأَسماعَ والقلوب. وكان على يقينٍ مُطلَقٍ بأنَّ تلك القبَساتِ العُلويَّة الصادقة لن تقوى عليها القُضبان، وأَنَّ الكواكبَ والنُّجومَ والشُّهبَ سوف تتلقَّفُ شُعاعاتِها وتَحفظُها إلى الساعة التي لا بُدَّ من أَن تُشرقَ فيها مثيلَ إشراقة الشمس من وراءِ الآكام! هذا ما باحَتْ به قصيدتُه «سجِّلي يا شُهب» التي جادَ بها من قلب السِّجن، آنذاك، قائلاً: قُـلْ لِمَنْ حَلَّ لدَيه سَقَمـي/ سيُلاقي بعـدَ حينٍ سَقَمَهْ
أَمِـنَ العَـدل بأَن يَحسبَـنيَ/ في عِـدادِ المُجـرمينَ الأَثَمَهْ
إنَّ مَـنْ قيَّـدتُمُ لـن تُسكِـتُوا/ فَـمَهُ أَو فِـكرَهُ أَو قَلَـمَهْ
سجِّلي، يا شُهْبُ، شِعري، وغدًا تُشرِقُ الشمسُ وراءَ الأَكَمَهْ
لقد أُتيح لي، بحُكم عملي في مجالات الكتابة والنشر، أَن أَطَّلع على مخطوطات الشاعر حليم دمُّوس، المنشورة منها وغير المنشورة. كما أَشرفتُ على تصحيح وطبع العديد من الكتب التي نَظمَها شِعراً، مثيل «بروق ورعود» و«ناثر وشاعر»، وكتبتُ المقالات الضافية فيه، مُتناولاً حياته وأَدبه وشِعره، إيماناً منِّي بأَنَّها تعودُ بالفائدة والخير على الناس جميعاً، وتُنيرُ أَمامهم سبيلَ الحياة، وتُجنِّبُهم التناحرَ الطائفيَّ والمذهبيّ، وتُحبِّبُ إليهم الحياةَ الأُخرى في ظلِّ الخالق العظيم. وفي أَواخر عام 2014، تواصل الباحثُ البنداري طايل معي عبر مجلَّة «الحقائق» اللبنانيَّة، بعدما قرأَ لي فيها مقالاتٍ عن الشاعر. وقد جرَت بيننا، نتيجةً لذلك، مراسلاتٌ جميلة على صلةٍ بدراسته ممَّا يمكنُ اعتبارُه مثالاً يُحتذى في التعاون من أَجل رِفعة الفكر.
وإلى ختامٍ أَقول إنَّ تلك الرسالة قد دوَّنها التاريخُ في صفحاته بأَحرفٍ من نُور! وسوف تبقى فيه مثالاً للدارسين والنقَّاد في ردِّ الاعتبار لكلِّ أَديبٍ أَو شاعرٍ ظُلمَ في حرِّيَّته وفكره. حَسْبُ الأَجيال الطالعة أَن تُردِّد مع الشاعر الحليم هذه الأَبياتَ الأَربعة التي كتبها، قبل سبعين عاماً، واصفًا فيها حقيقة أُدباء الشرق، والمصيرَ البهيَّ الذي ينتظرُهم بعد الموت، قائلاً:
لقـد جَهِلوا قَدْرَ الفـتى في حَيـاتِهِ / فعَـاشَ شَقيّاً وهـو للعِلـمِ شَيِّقُ
فتى خَدمَ الأَوطانَ عشـرينَ حِجَّـةً/ وذابَ كمِصباحٍ بهِ النُّـورُ يَخفُـقُ
وما أُدبـاءُ الشـرقِ إلاَّ كـأَنجُـمٍ/ تُـرى في ظلامِ الليـلِ إذْ تتأَلَّـقُ
وكَمْ من أَديبٍ عاشَ في الأَرضِ مُهمَلاً / وبعدَ الرَّدى في ظُلمـةِ القَبرِ يُشرِقُ
* كاتبٌ لبنانيّ مُقيم في كندا.