أن تصحب وجدي الأهدل (1973) في روايته الجديدة «أرض المؤامرات السعيدة» (هاشيت أنطوان/ نوفل، بيروت)، فأنت على موعد مع وليمة سردية تنطوي على مكاشفات جريئة عن بلاد كان اسمها اليمن السعيد، قبل أن تصبح حطام بلاد. لكن هذا الروائي اليمني لا يكتب من موقع الحنين بقدر ما يعمل على نبش ما هو مخبوء أو مسكوت عنه في ما يخصّ تواطؤ السلطة مع الأعراف القبلية. إلا أن صاحب «قوارب جبلية» (2002)، (الرواية التي أدت إلى تكفيره ومحاكمته وهروبه من البلاد، إلى أن تمكّن الروائي الألماني الراحل غونتر غراس خلال زيارة إلى صنعاء من الحصول على عفو رئاسي عنه) لا يكتفي بحراثة المكان وكائناته أفقياً، إنما يتوغل عميقاً في هتك أسرار ما يجري في مدن وقرى الأطراف، وكيفية تزوير الحقائق في وضح النهار. صحافي يكلّف بإجراء تحقيق حول اغتصاب قاصر واتهام شيخ يدعى بكري حسن بالقضية، فيسافر من صنعاء إلى الحُديدة لاستجلاء الحقيقة عن كثب. سوف يقابل الضحية ويجري حواراً معها، إلا أن رئيس التحرير يطلب منه أن يجعل الفاعل مجهولاً، وهو ما سيفعله متجاهلاً تقرير الطبيبة الروسية التي فحصت الضحية، وما كتبته إحدى صحف المعارضة عن الحادثة. من جهته، سيقوم رئيس قسم الشرطة باعتقال الشيخ بكري على أن يُحال إلى النيابة العامة غير مكترث بتهديداته وبأقوال محاميه، وسيحشد الحزب الحاكم مئات المناصرين للمطالبة بالإفراج عن الشيخ باعتباره بريئاً، وأن من اغتصب الطفلة هو صبي صغير، حسب التلفيقات اللاحقة التي أضافها الصحافي مطهر فضل في رسالته التالية للصحيفة. على المقلب الآخر، كانت الناشطة الحقوقية سلام مهدي قد بدأت حملتها المضادة للصحافي الذي خان الأمانة الصحافية، وإذا بصفحتها الشخصية على الفايسبوك تحتشد بالسجالات التي تفضح تواطؤ مطهر فضل مع السلطة، متجاهلاً التاريخ الناصع لوالده الذي مات وهو يدافع عن قناعاته الماركسية، وها هو يتخلى عن يساريته المزعومة ويبيع نفسه للسلطة. كان رد الصحافي على الناشطة بذيئاً باتهامها بالعمالة للدول الأجنبية، وبأنها «تتكسب من نكاح الصغيرات»، ومكبوتة جنسياً، وتقيم علاقات سرية مع «الأخدام». هكذا تحوّل الفايسبوك إلى ساحة حرب مشتعلة بين الطرفين، فيما كان الصحافي ينزلق تدريجاً إلى بئرٍ سحيقة من الأكاذيب، كما ستطبق عليه فخاخ الشيخ ورئيس التحرير بإغراءات متتالية وتحويل مبالغ ضخمة إليه كمصاريف شخصية، فينسى زوجته وأطفاله، ليعيش لذّة أخرى مع خادمة جميلة أهداها إياه الشيخ بكري بعد أن يثبت براءته من التهمة، وستُعتقل سلام مهدي بتهمة ملفّقة.
تشريح صورة مثقف اليوم الذي خلع رداء اليسار

مظاهرات ومظاهرات مضادة في لعبة القط والفأر بين السلطة والمعارضة، وإزاحة قضاة نزيهين وتعيين قضاة جدد بما يتوافق مع أهواء الزعماء المحليين، إلى درجة القيام بانقلاب أبيض على محرري إحدى الصحف المعارضة والاستيلاء على مقر الصحيفة ليرأس تحريرها مطهر فضل نفسه، بقصد تغيير خطها التحريري بما يتلاءم مع مصلحة السلطة. يلجأ صاحب «فيلسوف الكرنتينة» (القائمة القصيرة للبوكر العربية) إلى سرد كورنولوجي، فيبدأ الرواية من اليوم الرابع والستين نزولاً إلى اليوم صفر، من رحلته الشاقة بين المدن والقرى اليمنية التي ستشطر حياته إلى نصفين، لتتكشف عن بشر مخذولين، ونساء يعشن زمن العبودية، وصراعات قبلية، وجهل، وأمراض، وتزوير وثائق رسمية، ومراقبة أمنية صارمة، في فانتازيا بلا ضفاف. هذه الحفريات في طبقات المجتمع اليمني تنطوي على حفريات موازية لصورة المثقف اليساري وهو ينهار في حضن السلطة التي تنهش ضميره المهني وموقفه النقدي على دفعات، إلى أن يبقى مجرد هيكل عظمي بلا ملامح. اغتصاب «جليلة» نموذج لقاصرات أخريات يشكلن ظاهرة تتفرع نحو عنف الزواج المبكر، والعبودية القسرية، والتيه في مفازة لا نهائية من القسوة، وتالياً فإن الاغتصاب يتجاوز معناه المباشر نحو اغتصاب السلطة والمبادئ. ذلك أن مطهر فضل نفسه تُغتصب حريته بعد انزلاقه إلى سجادة حريرية سيدفن بها لاحقاً بفضيحة تعريه تماماً أمام الجميع: اغتصاب خادمة (!)، فهو خلال شهرين وأربعة أيام عاشها في النعيم، سيدفع عمره كاملاً، لينتهي في مسقط رأسه منبوذاً ومهملاً وذاهلاً، بخسائر فادحة غير قابلة للتعويض: «سوف أتزعّم رجال قبيلتي الشجعان، وأشنّ الغارات على مقر صحيفة السنابل الحمراء، وغيرها من الصحف والمنظمات التي شوّهت سمعتي... ولن ينجو إنسان أساء إليّ من انتقامي، ولن يفلت حتى الحجر من نقمتي» يقول. هكذا يعرّي صورة المثقف الانتهازي والمنافق والدنيء بإحالته إلى مجرد رجل قبلي لا يؤمن إلا بالغزو والثأر، بعدما فقدت السلطة السيطرة على مناوئيها، وإذا بالصحافي يتحوّل إلى مانشيت ساخن في الصحف بوصفه فضيحة متنقّلة. لكن مهلاً، أين القات؟ بالطبع ستتكرر جلسات القات في أكثر مفاصل الرواية خدراً ولذّة وشهوات. فضيلة وجدي الأهدل في روايته هذه، التفاته إلى تشريح صورة مثقف اليوم الذي خلع رداء اليسار، وانخرط في غنائم السلطة، دون أن تنقصه المبررات في اقتحام المستنقع، وربما علينا هنا أن نستدعي عنوان إحدى رواياته في توصيف الأحوال: «حمار بين الأغاني».