لا تقتصر العنصرية على الشتائم المهينة أو المعاملة المذلّة لشخص أو أقلية ما. ليست العنصرية هذا فقط. العنصرية هي أحد وجوه نظام هيمنة شامل، هي حرب اقتصادية وثقافية وأيديولوجية واسعة، تسعى لفرض نموذج معين ونمط حياة يروّج إليه على أنه النظام الأفضل.«نحن أفضل منكم»، هذه نقطة الانطلاق.
قيمنا، ديننا، تقاليدنا أفضل.
ثقافتنا، موسيقانا، أدبنا أجمل.
نموذجنا السياسي والاقتصادي أحسن. وكفاءاتنا وخبرتنا أعلى. كما أنكم لا تحسنون التصرف بثرواتكم.
لا نتوقف عن اللجوء إلى الصور النمطية وإلى ثقافتنا ونموذجنا كي ننسى أننا استقررنا في أراض أجنبية سرقناها من السكان الأصليين، الذين قمنا في أغلب الأحيان بطردهم وعزلهم وتهميشهم ومعاملتهم بقسوة وقتلهم.
إنها حرب شاملة لا مجال فيها لأي تعايش: نفرض على السكان الأصليين عنصراً خارجياً، شاؤوا أو أبوا.
يعاني المحتل عادة من عقدة نقص، فتراه يطمع في أراض وثروات ومعرفة عريقة. من أجل ذلك، يتقرب من الشعب الذي يستهدفه ويسرق منه معارفه ويتواصل مع بعض الخونة الذين سيساعدونه في هذا المشوار، ثم يقوم بقلب الأدوار لتبرير جريمته ويتحول من سارق إلى بطل.
«نحن أفضل منكم». تتردد العبارة إلى أن تتحول عقدة النقص إلى عقدة استعلاء، وهكذا يسيطر المحتل على جميع ممتلكات الساكن الأصلي التي كان يتوق إليها، وهو الذي كان يضع نفسه فوق الساكن الأصلي، سيصبح بالفعل فوقه، من أجل مصلحته الخاصة.
انتصار المحتل في هذه الحرب رغم المقاومة الطويلة يؤدي إلى ظهور مجتمعات مثل المجتمع الأوسترالي أو أفريقيا الجنوبية، حيث تتركز الثروات بين أيدي المحتلين وأبنائهم، بينما يحبس السكان الأصليون في محميات أو يستبعدون، ليواصلوا العيش على هامش المجتمع. وعندما يواصل السكان الأصليون المقاومة وهم على وشك الهزيمة، تكون النتيجة ظهور مجتمعات مختلطة مثل جزر الأنتيل أو ساحل العاج أو السنغال التي لا تزال تقاوم من أجل المحافظة على ثقافتها من دون أن تدرك أنها تخوض حرباً. أما عندما يرفض السكان الأصليون الاستسلام، فنحن أمام أوضاع شبيهة بالتي نراها في فلسطين وسوريا، حيث يقابل كل عنصر خارجي برفض عنيف وتام.
عندما يرفض السكان الأصليون الاستسلام، نحن أمام أوضاع شبيهة بالتي نراها في فلسطين


الاستلاب سلاح دمار شامل أيديولوجي لثقافات العالم. وقد يتجسد بطرق مختلفة: الأسلحة الفكرية (الإنتاج الإعلامي والتاريخي واللغوي)، والثقافية (الإنتاج الفني والموسيقي والرياضي) والسياسية (في مجال علم الاجتماع والهوية) والاقتصادية (النموذج الاقتصادي) والعسكرية.
الهدف من ذلك هو تقديم جميع مظاهر الثقافة المهيمنة (الرياضة، اللغة، الموسيقى، الموضة، الأكل) على أنها رائعة ومطابقة لذوق العصر، حتى تنشأ عند المهيمن عليهم الرغبة في الانخراط ضمن هذه الثقافة من دون اللجوء إلى السلاح أو القوة. فعادة مثلاً لا يعي عدد من الفنانين أنهم يروّجون للثقافة السائدة.
يتم ذلك عبر مراحل: تحرم ضحية الاستلاب القادمة من لغتها وثقافتها وتقاليدها التي تقدم على أنها لا تتماشى وأذواق العصر، حتى يتحول المستلب إلى ورقة بيضاء جاهزة لتقبل الثقافة الخارجية التي ستفرض نفسها بالخدعة والإغراء، أو بالقوة والعنف.
عندما يتملك المستلب تماماً قواعد الثقافة الأجنبية، عندها يبدأ زرعها ويتطور الاستلاب. فالأمر لا يحتاج البتة الى استعمال القوة، إذ إن المستلب مقتنع تماماً بأن الثقافة الأخرى أفضل بالنسبة إليه.
وهكذا نجد أنفسنا أمام جيوش من الأشباح التي هجرت لغتها الأم وباتت تجهل تقاليدها وقيمها، لتتحول إلى كائنات تستهلك وتستثمر أموالها في نموذج اقتصادي وثقافي بحاجة إلى ثروتها، لكنه في الوقت نفسه يحتقرها كلياً.
هذا ما يحدث عندما يقوم عدد من الأشخاص بنقل أيديولوجيات ـــ وسائل قمع ثقافات أخرى من دون وعي.
للخروج من منطق الاستلاب، من الأساسي إذاً إجادة اللغة الأم، وتعليمها للأبناء، والمحافظة على الثقافة والتقاليد. وحده الوعي بقيمنا يمكّننا من مقاومة هجمات الثقافات المجتاحة والمحافظة على قوتنا.

* فنانة وموسيقية منحدرة من أفريقيا (ساحل العاج) وروسيا