احترم جورج داود قرم (1896ـــ1971) النموذج أو الأصل الواقعي في لوحته. فعل ذلك في إنجازه للبورتريهات الإنسانية والمناظر الطبيعية والمدينية، وتبنى ذلك في نظرته إلى تاريخ الفن عموماً، فانحاز إلى الواقعية التصويرية والانطباعيات والتعبيريات القريبة منها وغير الخارجة كلياً عن نموذجها ومبادئها.
المعرض الاستعادي الذي تستضيفه «الجامعة الأميركية في بيروت» بعنوان «جورج داود قرم: الإنسانوية التصويرية اللبنانية»، يحمل ترجمة واضحة لأفكار وممارسات الفنان الذي كانت له مساهمته المميزة في استئناف جهود الرواد الخمسة الذين ترتبط نشأة المحترف اللبناني بأسمائهم، وهم: حبيب سرور، وخليل الصليبي، وفيليب موراني، وجبران خليل جبران وداود قرم، والأخير هو والده الذي درس الفن في روما، بينما درس الابن في باريس بين عامي 1919ـــ1921.
يضمُّ المعرض 72 لوحة يعود إنجازها إلى أزمنة وأمكنة مختلفة، وتتوزع بين لوحات البورتريه والعُري والطبيعة والمشهديات المدينية. مفردة «الإنسانوية» حاضرة بكثافة في الوجوه الكثيرة التي تُظهر براعة الفنان في رسم الملامح والعناية بدقتها مقارنة بالأصل، وتفاصيل الكادر أو المساحة التي يوجد فيها شخوص لوحاته، وبينها بورتريه للرائد حبيب سرور، وآخر لشقيقه شارل قرم صاحب «المجلة الفينيقية»، وبورتريهات متعددة لزوجته وابنته، وبورتريه غير مكتمل ليوسف السودا (وهي آخر أعماله)، إضافة إلى عدد من البورتريهات الذاتية، ومنها اللوحة الشهيرة التي تُظهره مرتدياً مئزراً أبيض، ومشغولاً بإنجاز لوحة لا نرى موضوعها، بينما يظهر في عمقها بيانو يذكّرنا بموهبته المتفردة في العزف، ومشاركته في تأسيس «الكونسرفتوار الوطني» اللبناني مع الراحل وديع صبرا. كان الفن جزءاً من مواهب جورج قرم المتعددة التي تجعله ناشطاً سياسياً وثقافياً بمصطلحات الزمن الحالي، خصوصاً إذا تذكّرنا دوره في إنشاء المتحف الوطني، ومشاركاته ككاتب في النقاشات الدائرة حول هوية الفن المحلي، وحول قضايا أخرى تتعلق بخصوصية لبنان واستقلاله. الهوية والخصوصية كانتا صفتين أساسيتين لتجربته التشكيلية كلها. هوية متصلة بمنجزات الفن الأوروبي في عصر النهضة، وخصوصية تُستثمر فيها هذه المنجزات ويتم تحويلها إلى مقتنيات محلية.
في هذا السياق، لا يختلف جورج قرم كثيراً عن تجربة جيل والده، ولا عن تجارب عدد من مجايليه أو من جاؤوا بعده مباشرةً، حيث كانت اللوحة تجد مثالها الأعلى في محاكاة الحضور الإنساني، وفي فن المنظر الطبيعي الريفي، والطبيعة الصامتة، بينما كان كل ذلك مختلطاً بمشاغل الحياة اليومية، والتطورات الهائلة والمتسارعة التي كانت تنقل تلك الحياة من ريفيتها وبدائيتها إلى عوالم المدينة وشرائحها الجديدة الموزعة على المهن والحرف والوظائف المستجدة مع الحداثة التي تتلمس مواقعها في عاصمة متحركة وفائرة مثل بيروت. لا ننسى هنا أنّ الرسم ينبغي أن يُنظر إليه كجزء من حركة التنوير والنهضة التي تؤرّخ دوماً بمنجزات المفكرين والكتّاب في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. صحيح أن المحاكاة ظلت تحكم النتاج الذي قدمه جورج قرم، وظلت المناخات التبشيرية والنهضوية الأوروبية تقف وراء أعماله، إلا أن ذلك لم يمنع تسرب الحياة المدينية إلى رؤيته للفن. رؤية اشتغل عليها تنظيراً وممارسةً أيضاً، وقد كتب ما يشبه بياناً شخصياً حول فن الرسم في ستينيات القرن الماضي بعنوان «بحثٌ عن الفن والحضارة في الزمن المعاصر». بيانٌ أعادت الجامعة الأميركية طباعته بالفرنسية والانكليزية والعربية في مناسبة المعرض، يوضح انحياز الفنان إلى تقاليد الفن الكلاسيكي، وروحية الماضي المؤنسنة، وسعيه في الوقت نفسه إلى استئناف هذه الروحية كممارسة محلية ولبنانية تصنع نوعاً من الانتماء الثقافي الذي راج لاحقاً في الفرنكوفونية، وفي خصوصية الطبقة الوسطى اللبنانية ودورها في تأسيس صورة لبنان، إلى جوار مساهمات أخرى حدثت في الصحافة والغناء والشعر والمسرح.
في عودة إلى اللوحات المعروضة، نجد تأويلات متعددة لهذه الرؤية التي آمن بها الفنان الذي رأى أن مهمته هي محاكاة النموذج واحترامه. نستحسن مهارته في رسم الوجوه، والزاوية التي يرسم منها موديلاته العارية، وننتبه إلى انشغاله اللاحق برسم البيوت والمناظر الطبيعية. هكذا، يبدو المعرض فرصة للعودة إلى ماضي المحترف اللبناني المعاصر، ومعاينة المسافات الضوئية التي باتت تفصل بين ما يقدمه الفنانون الجدد حالياً، وبين أسلافهم الذين باتوا أشبه بصورة باهتة مقارنةً بانفتاحهم على الفنون المعاصرة التي ترى في الفيديو والتجهيز والفنون المفهومية هوياتٍ أكثر تمثيلاً لهم من فن الرسم الصافي.

* «جورج داود قرم: الإنسانوية التصويرية اللبنانية»: حتى 19 نيسان (أبريل) المقبل ــــ AUB art gallery، (الحمرا) ــــ للاستعلام: 01/350000

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza





سلالة عائلية

يبدو معرض جورج داود قرم مثل هدية مرسلة من الماضي إلى زمننا الحالي. الفنان الذي تخرّج في باريس عام 1921، وهاجر إلى مصر سنة 1930 وبقي فيها حتى عودته إلى لبنان عام 1956، كان شاعراً وكاتباً وناشطاً وعازفاً بارعاً على البيانو. إنه سليل عائلة توارث أبناؤها موهبة التميز في الحياة اللبنانية، ابتداءً من جده سمعان قرم الذي كان مؤدِّباً لأبناء الأمير بشير الشهابي، ووالده داود الذي اشتهر ببورتريهاته لقداسة البابا وملك بلجيكا والخديوي عباس، وشقيقه الشاعر والرسام شارل قرم صاحب ديوان «الجبل الملهم»، وليس انتهاءً بابنه جورج قرم المفكر والخبير الاقتصادي والوزير السابق.