من الطبيعي أن ينجرف كثير من الوثائقيّين اللبنانيّين مع تيّار الحرب الأهليّة. أنجزوا الكثير عن أسبابها ويومياتها ومآلاتها في الراهن. معظمهم يرى أنّها ما زالت قابعةً في النفوس. بيد أنّ سؤالاً كبيراً يطلّ برأسه اليوم: ماذا عن لبنان ما قبل الحرب؟ بعيداً عن كليشيهات «سويسرا الشرق»، وأفلام وزارة السياحة، التي نجا بعضها لاحقاً، ما هي الهواجس والصراعات وطبيعة الحراك الاجتماعي والسياسي آنذاك؟ حسناً، هذه إحدى ميزات «شعور أكبر من الحب» (2017 ـــ 99 د. - جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما «فيبرسكي» في قسم Forum من «برليناله 2017») للبنانيّة الأميركيّة ماري جرمانوس سابا (1983). أوّل أفلامها الطويلة، بعد «ملاحظات حول العودة» (2014 ــ 14 د.). ينطلق الوثائقي من إضراب معمل غندور 1972، وانتفاضة مزارعي التبغ 1973، للحديث عن تاريخ الحركة المطلبيّة في لبنان. ثورات احتجاج منسيّة ضدّ نظام طائفي، متحالف مع الإقطاع والاحتكار والسلطة. القضاء عليها سبب آخر لاندلاع الحرب الأهليّة، إلى جانب ضرب العمل الفدائي ضد إسرائيل. بربط ذلك مع تظاهرات بيروت الأخيرة، يؤكّد الشريط أنّ النّظام الطائفي يحمي نفسه دائماً. هل كرّسته الحرب في شكل شبه أبدي؟
هكذا، تكتمل السلسلة. يُنبَش الماضي، للحديث عن الراهن المعاش. يُعاد صنع مشهد 23 كانون الثاني (يناير) 1973، في حلّ فني لافت. سيّارة تحمل مكبّر صوت، يدعو أهالي الجنوب والنبطيّة وقراها إلى تظاهرة ضخمة «لفكّ الحصار عن المحاصرين في مبنى الريجة في كفر رمّان». حصيلة الانتفاضة «شهيدان وعشرات الجرحى». سبقتهما فاطمة خواجة، التي قضت برصاصة في ساحة غندور. العدسة تعاين الأماكن والبيوت مجدّداً. تستحضر شخصيات عاشت الأحداث. بعضها ساهم في صناعتها بأسماء حقيقيّة أو حركيّة. يجتمع بعض أعضاء «منظّمة العمل الشيوعي» مجدّداً، مدلين بشهادات وساردين لذكريات. منهم، أحمد شولان رئيس لجنة إضراب في معمل غندور، ونادين صاحبة الاسم الحركي «وردة بطرس»، تيمناً بأوّل شهيدة للطبقة العاملة في الريجة عام 1946. بوح يذكّر بعض الشيء بـ «شيوعيين كنّا» (2010) لماهر أبي سمرا. يُضاف لذلك أرشيف فوتوغرافي وسينمائي. الأوّل من صحيفتي «النداء» و«الأنوار»، والجامعة الأميركيّة في بيروت. الثاني أفلام نضاليّة شهيرة. «مئة وجه ليوم واحد» لكريستيان غازي. «الجيش الأحمر/ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين: إعلان الحرب العالميّة» لماساو أداتشي وكوجي واكماتسو. «لبنان في الدوّامة» لجوسلين صعب وجورج ستاكلين. «أوراق الفقراء ذهبيّة» لكمال كريم. «كلنا للوطن» لمارون بغدادي. «بيروت اللقاء» لبرهان علوية. نهاياتها متباينة (نصر، هجرة، حرب، موت...). جهد بحثيّ هائل، استغرق سنوات من العمل والانقطاع. ترك الفيلم يختمر، ثمّ العودة إليه. توليف مرهق، لا يخلو من ذكاء في مفاصل، وترهّل في أخرى، مقسوماً على فصول بعناوين مكتوبة. الحصيلة، سرد مغاير، تراكميّ، غير متسلسل، لإعادة بناء ما تهدّم واندثر. بعض التشظّي جزء من تشكّله وحسيّته. جمالية كان يمكن تعزيزها، باختصار بعض المعلومات والأفكار المكرّرة.
«بغير ذلك، كيف يمكننا أن نخلق شيئاً جديداً؟». تسأل سابا في منجز أرادته «ثورياً»، كالحل الذي تدافع عنه. تجد تجربته أعلى من الحب وأكثر سموّاً، بناءً على مبدأ راسخ، وذكريات تُروى أمامها. «من أين نبدأ؟». «كيف نتحّد؟». «جيش العامل والفلّاح؟». يتوالى «التحريض» والتحفيز مع مشاهد القمع والعسف. تكاد تصرخ «إلى الثورة»، حاملةً لافتة أو قنبلة مولوتوف على هيئة فيلم. طرح ليس طوباوياً أو منفصلاً عن الواقع. «شعور أكبر من الحب» يدرك تكالب النظام على حركة التغيّير، بمعزل عن اختلافاته على السلطة والثروة أحياناً. ثمّة اشتغال ممنهج على طمس تاريخها، ومحوها من الذاكرة الجمعية. لذلك، لم يعد كثير ممّا ذكرته شخوص الفيلم موجوداً اليوم. غير أنّ الأمل يظلّ بتكرار الاحتجاج والتمرّد، منذ 1860 حتى اليوم.

* «شعور أكبر من الحب» (2017 ـ 99 د): 13 نيسان (أبريل) ـــ س:20:00