فندق «بالميرا» التاريخي الجميل المطلّ على قلعة بعلبك شبه فارغ كحال القلعة ومعابدها. لم يسبق لمدينة الشمس أن شهدت هذا الجمود حتى في قيظ حرّها، هل هي الأحداث الأمنية فعلاً أم نوع من مقاطعة؟ أم إهمال ونسيان لهذه المدينة؟ فريق عمل «إلك يا بعلبك» هم أوّل الواصلين مع المخرج نبيل الأظن، الذي اختار أن يكون العمل الذي يفتتح المهرجان العائد الى بعلبك، عن بعلبك وإليها.
في المكان نفسه الذي سيقدّم فيه «إلك يا بعلبك» على مدرج باخوس، شاهد الأظن بالمصادفة تمارين موريس بيجار الأخيرة قبل العرض عام 1975. يقول لنا: «كنت أدرس العلوم السياسية في الجامعة، أتيت مع أصدقائي من بيروت لمشاهدة العمل. وصلنا باكراً وقررنا التنزه في القلعة لتمضية الوقت، وإذ بي أجلس مبهوراً بموريس بيجار وهو يشرف على التفاصيل الأخيرة قبل العرض». يستعيد هذه اللحظات ليذكّرنا بمكانة هذه المدينة التي احتضنت الى جانب الحضارة والتاريخ، أهمّ الأحداث الثقافية والفنية التي طبعت ذاكرة البلد. لكن ليس عرض «إلك يا بعلبك» نوستالجيا واستحضاراً لماضٍ ولّى، بل هو عن الحاضر، بعلبك اليوم ولبنان اليوم.
خلال عشاء جَمَعه بنايلة دو فريج رئيسة لجنة «مهرجانات بعلبك الدولية» في منزله في فرنسا خلال شهر نيسان (أبريل) 2014، هَمست دو فريج له عن فكرة عرض ضخم يجمع أسماء كبيرة في عالم الشعر والأدب. ردّ الأظن يومها بأنّ الفكرة يمكن تحقيقها، مضيفاً: «غادرت دو فريج منزلي، ولم أنَمَ، بقيت أتمشّى وأفكّر حتى الصباح. في اليوم التالي، قلت لها هذا هو العرض، مع أسماء جميع من يمكن إحضارهم من لبنانيي الخارج ممن يكملون رسالة لبنان التي انتشرت في الخارج منذ القرن التاسع عشر. الأولوية أن نعيد هؤلاء وندْعو الى جانبهم من بقي في لبنان». في البداية، لم تكن الفكرة عن بعلبك، لكن مخرج «مهاجر بريسبان» أراد أن يخصّ بعلبك التي يصفها بـ»واجهة لبنان»، بهذا العمل، تكريماً لها كمدينة أيضاً وليس فقط لمهرجاناتها ولمسرحها الذي قدّم أهم الوجوه والأعمال الفنية.
«بدأنا بمراسلة الكتاب والشعراء والموسيقيين، لم يترددوا لحظة بالموافقة بكل فرح تشجيع». أسماء كثيرة وكبيرة، لبنانيون مقيمون ومغتربون تركت أعمالهم أثراً في لبنان وخارجه، المحطات واللوحات كثيرة. العمل عبارة عن كلمات وصور من بعلبك خطّها طلال حيدر، أدونيس، جبران خليل جبران، ايتل عدنان، ناديا تويني، عيسى مخلوف، وجدي معوّض، غدي الرحباني وصلاح ستيتية، ومقاطع موسيقية شارك في وضعها مرسيل خليفة، زاد ملتقى، غبريال يارد، ابراهيم معلوف، بشارة الخوري، عبد الرحمن باشا، غازي حكيم وغدي الرحباني أيضاً، مع مشاركة رفيق علي أحمد، فاديا طنب الحاج على خشبة المسرح وكارولين حاتم التي انضمت أخيراً الى الفريق إلقاءً ورقصاً. يضم العمل أيضاً لوحات راقصة لنسيم بطّو، و«فرقة أمجاد بعلبك للرقص والفولكلور اللبناني» بقيادة خالد نبوش وطبعاً بحضور «الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية» بقيادة هاروت فازليان. وأخيراً صمّم علي شري فيديو للعرض بتوليفة من أرشيف «مهرجانات بعلبك» القديمة.
بعد فترة من المراسلات والموافقات، كان الأظن يتلّقى كل يوم مقطوعة موسيقية أو نصّاً أو قصيدة: تحيّات ووجدانيات وقصص قصيرة تندرج ضمن قطع صغيرة من لوحة موزاييك، عمل على تركيبها ومجانستها في سياق درامي موسيقي.

مشاركة رفيق علي أحمد، وفاديا طنب الحاج وكارولين حاتم على الخشبة

في السابع من تموز (يوليو) الحالي، قدّم الأظن نسخة مصغّرة من «إلك يا بعلبك» في مهرجان «أكس أن بروفانس» كأنها مقدّمة من عرض الليلة. المهرجان الفرنسي استضاف العرض اللبناني كتحية من القائمين عليه إلى «مهرجانات بعلبك» التي اقتربت من عيدها الستين وتكريماً لصمودها ومتابعتها المسيرة. يقول الأظن: «قدمنا في فرنسا القطع الأدبية التي كتبت، مع مقطوعتين ليارد وغدي الرحباني. هما الوحيدتان اللتان استطعنا تطويعهما لتُعزفا على آلة البيانو، من قبل عبد الرحمن الباشا وسيمون غريشي الشاب اللبناني- المكسيكي- الفرنسي الذي يزور لبنان ضمن الفريق العمل ليعزف ثلاث دقائق فقط من كلمات لناديا تويني». ويضيف: «إقامة المهرجان في بعلبك تحدٍّ. العام الماضي انتقل الى بيروت فوراً بعد الافتتاح، وتوقف في أحد المواسم». ينوّه بمضي القائمين قدماً رغم صعوبة وضخامة التكاليف، فـ «المهرجانات تنتج أعمالاً ولا تكتفي باستضافة أعمال جاهزة». يصف ما يشعر به بـ»رعشة خاصة» مع اقتراب الموعد والصورة الوحيدة التي يتأملها من خلال هذا العرض هي «وقوفنا جميعاً، على اختلاف توجهاتنا العقائدية وأفكارنا ومواقفنا، يداً بيد في هذا المكان الرمزي. الرسالة أيضاً موقف وموقف سياسي».
معظم المشاركين من موسيقيين وكتّاب وشعراء، حاضرون الليلة في العرض الذي قدم أمس ليلة مجانية لأهالي المدينة وجوارها. في حلقة خاصة من «الأسبوع في ساعة» على «الجديد»، استضاف جورج صليبي الأحد الفائت فريق العمل والقائمين على المهرجان. يومها، طمأن الشاعر طلال حيدر القادمين، قائلاً: «اتصلت بقائد الحزب اللي بخافوا منه. وهو كان تلميذي، وقال لي إنّ الطريق سالكة وآمنة وكل ما ينعش المدينة ويستعيد روحها، يلقى منّا التشجيع والدعم».

«الك يا بعلبك»: 20:00 مساء اليوم ــ «مهرجانات بعلبك» ـ 01/999666




الآخر هو أنا

غادر نبيل الأظن الى فرنسا بعد انهيار المثاليات والمشاريع التقدمية وأحلام اليسار التي قطعتها بداية الحرب الأهلية. غادر الشاب اليساري منطقة الأشرفية بعدما بدأ أصدقاؤه وجيرانه بحمل السلاح. في البداية، كانت النية إقامة موقتة ريثما تنتهي الحرب. لكنها طالت. مرت عشر سنوات قبل أن يدرك الأظن أنه لن يعود الى لبنان. «حين وصلت، كنت وحدي وأبحث عن نفسي في ظلّ الانهيار والإحباط. سألت نفسي، ماذا أفعل بشهادتي؟ كيف اكسب عيشي في هذا المكان الغريب عني؟ اقترحت عليّ إحدى صديقاتي المسرح، صدّقتها. وهكذا كان» يقول إنّ المسرح كان حينها مساحة كبيرة، وفضاء حرّره من أشياء كثيرة. بدأ ممّثلاً لكنه سرعان ما أدرك أنّ يريد الكتابة والإخراج المسرحي.
درس في جامعة «السوربون». كان المسرح نوعاً من علاج، «جنة مفقودة، وطناً مفقوداً، بخاصة أنّي ذهبت من دون قرار. كان سفراً موقتاً، لا قراراً بالهجرة». لم يأت مسرحياً الى لبنان حتى عام 1998 بعمل «فوتبول» على «مسرح المدينة». حاول الأظن أن يبني أعماله على العلاقة مع الآخر، فـ «الآخر فينا. والآخر الذي هو أنا في النهاية». من خلال هذا المفهوم، أراد أيضاً بناء علاقة مع المشاهد تجعله يشارك في العمل بطريقة ما من دون أن يبقى متفرجاً. منذ عام 2000، بدأ بجلب عروض الى لبنان والعمل عليها مع لبنانيين كـ «ثعلب الشمال» مع ممثلين لبنانيين ونص فرنسي، والعمل الملفت «عقد هيلين» عن سيّدة فرنسية أضاعت عقدها في لبنان ومضت تبحث عنه بمشاركة غابريال يمين ورندة الأسمر وفادي ابراهيم، و»مهاجر بريسبان» (نص جورج شحادة وترجمة عيسى مخلوف) التي استضافتها بعلبك أيضاً، الى «فيفا لا ديفا» التي قدمها في بيروت لهدى بركات وتمثيل رندة الأسمر.