يمثّل المفكّر العراقي فالح عبد الجبّار (1946- 2018) حالة استثنائية لصورة عالم الاجتماع العربي المواكب بجرأة ونزاهة وعمق تحوّلات المجتمع العربي في انهياره التدريجي نحو الهاوية. من الشغف بالماركسية وترجمته «رأس المال»، اضطر تحت ضغط مطارق التخلّف العربي أن ينقل مشاغله الأممية إلى تشريح القبيلة والعشيرة وصولاً إلى المذاهب الإسلامية.
وهو بذلك يغلق الدائرة التي افتتحها مواطنه علي الوردي، رائد علم الاجتماع العراقي. كأن كل الحراك اليساري الذي شهده العراق والمنطقة في خمسينيات القرن المنصرم وما تلاه، عاد إلى نقطة الصفر بسطوة الانقلابات العسكرية والاستبداد والحركات الإسلامية.
هكذا وجد هذا المفكر نفسه أمام أسئلة تحتاج إلى تفكيك وحفريات عميقة لحراثة الأرض الأولى مجدّداً، بأدوات معرفية هي حصيلة اشتغالاته الأكاديمية من جهة، وانخراطه بالمشروع اليساري العراقي، من جهةٍ ثانية. بدا أن الجلطة الدماغية التي باغتته أول من أمس، على الهواء مباشرة، أثناء مقابلة تلفزيونية، نتيجة طبيعية للأهوال التي عاشها الرجل. ذلك أنّ العراق الحلم تلاشى إلى كابوس، فكان عليه أن يشرّح أحوال خريطة البلاد الممزّقة، في إعادة نظر شاملة، بدءاً من العلمانية التي يؤمن بها، والحركة الشيوعية العراقية، متهماً اليسار بالانفصام عن الواقع والتعالي عليه، والاندحار خلفاً، من دون أن يفقد الأمل تماماً بديمقراطية قيد النضوج. كما سيتوقّف مليّاً حيال صعود الحركات الجهادية ومآلها وأسبابها في كتابه «دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي». وإذا به يعيد سبب صعود هذه الحركات المتطرفة إلى «الدولة العربية الفاشلة» ببرامجها التنموية المحتضرة، وحصار المجتمع المحلي بين صعود الإسلام السياسي وهيمنة التيارات التكفيرية بصورتها العسكرية أو السياسية، ومعرّجاً على عناوين أساسية مثل «اختلال بناء الأمة وتعدد الهويات والنزاع»، و«التاريخ اللاتاريخي ودولة اللادولة»، و«الحياة اليومية في مجتمع الخلافة»، و«المال المقدّس والمال المدنّس»، بالإضافة إلى شهادات ومقابلات ميدانية عن «الولاء والاستتابة وإعادة التثقيف»، ومحنة المجتمع المحلي أمام كل هذه المعضلات. وتالياً، فإن فكرة التطرف «مثال لتسييس وأدلجة الهويات الجزئية المعتمد على خزين تاريخي».

التفت إلى إخفاقات العراق
الجديد وهزائم الديمقراطية وأسباب العنف الطائفي


لم يعد سؤال «ما بعد ماركس» ملحّاً، أمام سؤال «العمامة والأفندي»، في قراءة موسوعية تنطوي على أبعاد سوسيولوجية للنهوض الشيعي في عراق القرن التاسع عشر، وصولاً إلى الصدام مع الديكتاتورية البعثية، لنجد أنفسنا أمام تراجيديا تتفرّع نحو التاريخ العراقي بشموليته، بوصفه حركات احتجاج مستمرّة، بين ما هو مقدّس ودنيوي، وفضاء متناقض تختلط في نسيجه العتبات المقدسة، وبورجوازية المدن، وطبقة المثقفين، وزعماء القبائل والعشائر، في صراع المصالح والإيديولوجيات.
غادر فالح عبد الجبار العراق في أواخر السبعينيات إلى لندن، بحثاً عن أوكسجينٍ آخر، فدرس علم الاجتماع، لكن كتابته لم تنغلق على ما هو أكاديمي صرف، إنما انفتحت على مشكلات وهموم وأسئلة الشارع العراقي العريض، مازجاً في متنها الصرامة العلمية بما هو يومي وملحّ وخلّاق، كأنه لم يغادر العراق في غليانه وجحيميته وآماله.
هكذا التفت تدريجاً إلى إخفاقات العراق الجديد وهزائم الديمقراطية وأسباب العنف الطائفي. في كتابه الأخير «كتاب الدولة.. اللوثيان الجديد» (2017)، يستكمل حراثة ما بدأه الباحث حنا بطاطو في تحليل المجتمع العراقي، معزّزاً البعد النظري لمفهوم الدولة المتوحّشة وطبقاتها، أو الدولة التنين التي تفترس أبناءها، وذلك التناغم بين الريعية النفطية والدكتاتورية. وهو بذلك يستكمل بتعميق أشمل ما عالجه في كتابه «التوليتارية». ورغم أن «سوق الأفكار العربية مغلق» حسب قوله، إلا أن صاحب «الديمقراطية المستحيلة» لطالما وجد منافذ للسجال والحضور الحيوي، متكئاً على ثقافة عميقة، ولغات متعددة مثل الألمانية والإنكليزية، ومواكبة دائمة للمشهد الثقافي والفكري، ناعياً تراجع علم الاجتماع العربي الذي انكفأ عن مقاربة الأسئلة الراهنة في المجتمع بضغط ايديولوجيات متنافرة وعدم تطوّر بنية المدارس والجامعات. ما أدى عملياً إلى انطفاء شعلة الفكر التنويري لمصلحة التفكير الطائفي.
تكمن أهمية فكر فالح عبد الجبار في انتباهاته الحادة إلى الثنائيات التي تتحكم بآليات التفكير العراقي، والعربي عموماً، مثل «العقلانية والخرافة»، و«القبيلة والسلطة». وفي ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، أضاف إلى هذه الثنائيات «العقال والخوذة»، كأن كل تمظهرات المجتمع المدني تبخّرت من الشارع تماماً. وما يميّز مثل هذه القراءات، تجاور أكثر من سردية في بناء محكم وأصيل ومشبع معرفياً وتاريخياً. يقول في تحليله لمنظومة العنف: «العنف في المجتمعات الحديثة هو عنف الدولة لأنها هي التي تحتكر وسائل العنف مثل الجيش والشرطة والسجون وكل وسائل القوة، ولانها جهاز يحتكر السلاح بحسب تعريف عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر، والدولة عندما لا تكون ممثلة لسكانها تكون علاقتها بالمجتمع علاقة قمع وعنف. لذلك كانت هنالك جرعات مستديمة من عنف الدولة تجاه المجتمع، وهذا العنف يتشربه المجتمع ويكمن فيه، إذ إنه لا يتسرب بل يكمن في المجتمع ويحاول أن يجد له منافذ أو قنوات للخروج».
ويعيد عالم الاجتماع ورئيس «مركز الدراسات العراقية» في بيروت، هذا الانسداد التاريخي للخرائط العربية، إلى استيقاظ الهويات الصغرى وتفاقم الصراع والتعصّب المذهبي والفكري بقوله «العلمانيون لا يدرسون التراث، والفقهاء لا يدرسون العلوم الحديثة، وكلاهما يتطرف في تعامله مع النص الديني»، مؤكداً على هوية ثقافية كونية تنبذ التفكير المغلق: «لا أفهم كيف أن الأرض لا تدور حول الشمس، أو تقديس الشخصيات المتوفاة، وصولاً إلى قدرة التشفي ببولها أو بقايا جثتها؟ كيف يمكن لجسده بالمعنى الفيزيائي الطبي أن يكون خالياً من البكتيريا والجراثيم والفيروسات؟ هذه هلوسة وجنون».
رحل فالح عبد الجبار وهو يردّد «التركيز على اختصاص ضيق هو انعزال»، لذلك ترك نوافذه مفتوحة على حرية السجال.