( 1 )

ليس هذا هجوماً على الصديق القديم، الألماني الأصل الكنديّ الفصل، الدكتور ستيفان وينتر، ولا على «راويته» زياد منى. لكنّه دفاعٌ عن حقّ القارئ، على كلّ مَن يُخاطبه بقلمه، سواءٌ كان مؤلّفاً/ باحثاً وبالنتيجة مُؤسّساً، أم كان ناقداً وبالنتيجة مُؤصّلاً، يُرجعُ أفكار المؤسّس إلى أُصولِها في مفردات منابعِها وفي تركيب المؤلّف لها. أي حقّ القارئ في أن ينالَ ما وعده المؤلّف/ الباحثُ بما اختاره عنواناً لعمله.

ثم حقّهُ في أن يحصلَ على مُراجعةٍ نقديّةٍ حقيقيّةٍ ممّن أخذ على عاتقه مُهمّةَ تقديمه للقارئ، من شرطِها أن تكونَ نقديّةً بالفعل، يعني أن تُنيرَ حقّاً أين أضاف المؤلّفُ إلى موضوع عملِه، وأين رجع به إلى الوراء.
إنّ وظيفة الناقد هذه تكاد أن تكونَ مَنكورةً في أدبيّاتِنا، حيث يقِفُ واسطةً بين الكتاب/ البحث وبين القارئ العادي، العاجز بنفسه عن وضع العمل في الموضع الذي يستحقّه من تطوّر المعرفة في موضوعِه. ولذلك، فإنّ من شرطِها ومن شروطِه هو، أن يكون في موقعٍ مُوازٍ، أو على الأقلّ مُقارِبٍ، من موقع المؤلّف. ليس يكفي فيه وفيها (الوظيفة) أن «يقرأ» الكتاب لأنّه أعجبه، أو لأنّه يُحسِنُ لغته، أو لأيِّ سببٍ آخر. ثم يمتشقُ قلمَه ليكتبَ كتابةً وصفيّةً، فقط وصفيّة، معتقداً أنّه بذلك يؤدي قسطَه للعُلى. لأنّه بعمله المَجزوء هذا، قد يزيدُ الأمرَ التباساً على القارئ. فعل شاهدٍ يؤدي شهادةً على ما لم يرَه. فكيف إذا هو شفع عرضَه بعبارات المديح والتنويه بشخص الكاتب. فكأنّه يضعُ في رَوعِ القارئ أنه يوافق على كلّ ما أتى به جملةً وتفصيلاً. ليس هذا من النّقد في شيء.

( 2 )


ترجع معرفتي بالدكتور ستيفان وينتر إلى أواسط العقد السابع من القرن الماضي. كنّا نتردّدُ على «المعهد الفرنسي للدراسات العربيّة» في دمشق. أنا مُتابعاً لنشر المعهد بعضَ كُتبي. وهو لشأنٍ من شؤونه العلميّة. كان يخطو خطواتَه الأُولى باحثاً مُستعرباً. جمع بيننا الاهتمامُ المُشترَكُ بالتأريخ. وشدّ عُرانا الإعجابُ والتقدير العالي للشهيد الأوّل محمد بن مكي الجزّيني، باعثِ النهضة في جبل عامل، وعبرها في كلّ العالَم الشيعي الإمامي. ثم عندما أصدر كتابه الهامّ «الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني 1516ــ 1788» أشرفتُ على ترجمته إلى العربيّة وتحضيره للنشر ونُشر بالفعل.
أمّا موضوعُ هذه المقالة، فهو كتابه التالي «تأريخٌ للعلويين من حلب القرون الوسطى إلى الجمهوريّة التركيّة» الذي استعرضه الأستاذ زياد منى على صفحات جريدة «الأخبار» (العدد 3389 ــ 6/2/ 2018).

( 3 )


الحقيقةُ التي لن يمنعني تقديري العالي للدكتور وينتر أن أُفصحَ بها، أنّني بعد اطلاعي على كتابه هذا وجدتُ نفسي أتساءل، هل إنّ الذي كتب كتابه السابق هو نفسه الذي كتب هذا الأخير؟!.
أين التوثيق الغنيّ والدقيق والتركيب البارع للمعلومات في كتابه «الشيعةُ في لبنان...» من الاستلشاق والارتجال اللذين ما انفكّ يقفزُ إليهما بأحكامه في كتابه «تأريخٌ للعلويين...»، دون سندٍ كثيراً، ودون أدنى اهتمام بأن تأتي أحكامُهُ مُقنعةً للقارئ العارف الخبير. لستُ أتوقّعُ أن يأتي الدكتور وينتر ولا غيرُه بالعجبَ العُجّاب في هذا البحث العسِر. لا لسبب إلا لأن النصوص العلويّة، فيما يخصُّ تاريخهم وغير تاريخهم، ما زالت غير مُتاحة للباحثين. كيف يُمكن أن تضعَ بحثاً على أمرٍ أو جماعةٍ في غياب النصوص الأصليّة! إلا أن يكون من الميسور الذي لا يُترك بالمعسور، أو مجزوءاً قاصراً على المُباح.
ومع ذلك، فإنّني أخالُ أن ثمة سببٌ إضافيّ في عمل الدكتور وينتر، بحيث أتى بالنحو الذي وصفناه، أراهُ في ضعف تجربته في تاريخ ما أسميتُهُ في غير بحثٍ لي بـ «التّشيُّع الشامي»، الذي يشملُ الشيعة الإماميّة في أنحاء الشام بالإضافة إلى الإسماعيليين. وهي تسميةٌ تقبّلتها الدوائرُ البحثيّة وراجت فيها، لأنّها تُقدّم منظوراً يُميّزُ بين هذا النّمط البسيط من التشيُّع الإمامي فيه، وبين التشيُّع الكلامي ـــ الفقهي الذي ازدهر وتطوّر في قُم فبغداد فالحلّة فجبل عامل. ومن الآثار البالغة السوء لذلك الضعف في تجربة الدكتور أنّه ينفي أيَّ علاقة بين التشيّع الإمامي وبين مَن عُرفوا فيما بعد، وما يزالون، باسم العلويين، فضلاً عن أنّه يمنح انعزالَ هؤلاء في الجبال أثراً على تاريخهم. مع أنّهم في أساس تاريخهم شيعةٌ إماميّةٌ دون أدنى ريب. ومع أن غيرهم من الشيعة الشاميين انعزلوا أيضاً في جبالهم (مثاله الأكبر الشيعة في جبل عامل) دون أن يترك ذلك الأثر المَزعوم نفسه. إلى غير ذلك، وهو كثير. والبحثُ من ثَمّ طويل ومُعقّد، لن ندخلَ في هذه العُجالة بتفصيلاته.

( 4 )


أخيراً أقول للأُستاذ منى، تعليقاً على ما كتبه عنواناً لمقالته «قراءةٌ ماديّةٌ وعَلمانيّةٌ لتاريخ علويي سوريّا»: ليس هناك تاريخ عَلماني وتاريخ غير عَلماني، وتاريخٌ مادّي وغير مادي. ليس هناك «تاريخ» ونصف تاريخ أو رُبع تاريخ. التاريخ إمّا أن يكون شاملاً لكافة عناصر السلوك البشري، وإمّا أن يكون إيديولوجيا. نعم! ثمة مُحاولات على تقديم تفسيرٍ وحيدٍ للسلوك البشري، تنطّع لها من قبلنا مفكرون/ دُعاة من مثل فرويد ويونغ وكارل ماركس. لكنّ هذه باتت اليوم من تاريخ «التأريخ»، أو بالأحرى من تاريخ صنوف الإيديولوجيات وليس أكثر، والعودة إليها ليس إلا نكوصاً إلى الوراء.
* باحث لبناني