يخبرنا فؤاد الخوري (1953) في أحد نصوص كتابه الجديد «تمرير الزمن» (Passing Time)، كيف كان يحاول اللحاق بتغيّرات المدينة الفالتة منه يومياً. كان يصوّر مشروعه «آثار الحرب»، في فترة إعادة إعمار بيروت. سباق متواصل بينه وبين آلة الهدم التي كانت تنجح كل ساعة في القضاء على شيء من ملامح وسط المدينة. لكن ألم يكن الهدم/ الإعمار سوى فرصة أخرى لاختبار العلاقة الراسخة بين الكاميرا والزوال، التي لطالما كان مسكوناً بها منذ أن أمسك بالكاميرا للمرّة الأولى؟
في مؤلفه الجديد الصادر عن دار «كاف» (Kaph) في بيروت، سنتعرّف إلى طفل بالكاد يبلغ العاشرة من عمره يحمل كاميرا والديه الـ «نيكورمات». ستتطوّر معه رغبته بالاحتفاظ بكل ما يراه. بعض صوره تترك شعوراً عميقاً بالوداع. قد ينطبق هذا على جوهر كل صورة بسبب استحالة تكرارها مجدداً. لكن صور فؤاد الخوري تملك قدرة أخاذة على الاحتفاظ باللحظات وتسويتها ضمن حالة من الصمت القاطع والفراغ، بحساسيته على مداراة الظلال والضوء الخافت، وتحويل الأشخاص إلى هالات خفرة لا تُرى أحياناً، وإن فعلت تدير ظهرها للكاميرا، تذهب في اتجاه آخر، تغادر الإطار.

صوره العائلية في مجموعة
«حميميّة» تنشر للمرّة الأولى

في واحدة من أولى لقطاته، يقف كلب في الوسط، بينما يركض طفل في الخلفية بجانب ظله. تنزل المرأة الدرج في لقطتين متتاليتين. فتاتان تركضان بعيداً عن الكاميرا في بسكنتا. شابة تجرّ ولداً على كرسي متحرّك في ساحة الشهداء. رجل يقف قبالة مبان واطئة على المرفأ. لا نعلم إن كان من الضروري أن نذكر التواريخ، خصوصاً في صور الخوري التي تفيض مناخاتها عن الوقت في كثير من الأحيان، ضمن تكثيفه للزمن ومحاكاته لمعناه الأشمل، بعيداً عن الحدثية سريعة الزوال. في إخراجه النهائي، يحفظ الكتاب هذه المساحة، إذ تم وضع أسماء الأمكنة وتواريخ الصور في الصفحات الأخيرة منه، كي لا يتمّ حصر الصور داخل الإطار التوثيقي فقط. تغطي الصور الـ 160، معظمها بالأبيض والأسود، مراحل ومناطق مختلفة من لبنان. ظل فؤاد يصوّر لفترة طويلة بالأبيض والأسود، لأنه كان يعتقد بأن اللون يسلب شيئاً من الصورة. البداية من لقطاته العائلية التي صوّرها حين كان طفلاً في مجموعة «حميميّة» التي تنشر للمرّة الأولى، ثم «هوامش» (1962 ـ 1975)، و«حرب أهلية» (1977 ـ 1986)، و«قصة ز» (1987 ـ 2004)، و«بيروت، وسط المدينة» (1991)، و«آثار الحرب» (1993 ـ 1997)، و«بيروت، مهمّة سوليدير»، و«زوروا لبنان» (2009 ـ 2017).


تنساب الصور مع الوقت والتبدلات في رحلة كرونولوجية من التاريخ اللبناني. تبدو اللقطات أحياناً تسلسلية تحاكي واحدة الأخرى، لكنها تتصادم أحياناً، فيما تتمرّد بعض اللقطات المضيئة بذاتها الجمالية والشعورية على كل هذا السياق.
سنرى كيف تقطع الحرب المشهد الحميمي العائلي، وكيف تنتهي بقلق وحرب آخرين هي إعادة الإعمار، سرقة المدينة مجدداً، قبل أن تنفتح الصور على خراب لبناني أشمل. بالإضافة إلى تغيّر المشهد العام، يغطي الكتاب تطوّر الممارسة الفردية الفوتوغرافية للخوري. ما كان يبدو في السابق هوساً بالقبض على اللحظة الحاسمة وفق كارتييه بروسون، صار في ما بعد تعبيراً عن سخط وغضب أمام تبدل الأمكنة، وسرقتها. هكذا تبتلع المساحات الوجود البشري كما في صورة لرجل يقف بجوار عربته مع كلب، أمام منطقة قاحلة وخالية. لن يتبادر إلى الذهن فوراً أنها التقطت في وسط بيروت، إذ أن خواءً كهذا يذكّر بمنطقة البقاع مثلاً. سيختفي الأثر البشري تماماً في مجموعات لاحقة كما في «زوروا لبنان». هنا نرى الجبال والكسارات وهياكل باطونية في طور البناء وما تبقى من مساحات لبنان الطبيعية التي يجد فيها المصوّر فسحات تأملية، كما يكتب في أحد نصوصه: «أجول الجبال وتركيزي منصب على الصور التي أود التقاطها. المتاعب ترحل بعيداً. ليس هناك أجمل من نسيان الذات». النتيجة لن تسلّم نفسها إلى عنوان هوياتي لبناني بالمعنى الضيّق للكلمة. تتجاوز الصور أساساً هذا التصنيف السياحي السهل. عين الخوري اليقظة أبداً لا تهادن مع المشهد المديني ولا مع محوه الممنهج خلال إعادة الإعمار، أو مع من يجبره في كل مرة على تثبيت هويته في مدينته. إنها هنا، تترصّد التبدلات، والوجوه، والأبنية، والعمارات والدمار. تحتجّ على كل ذلك. في أحد نصوصه، يكتب الخوري عن تواريخ ونكسات أثّرت في وعيه السياسي الرافض: كلمة إسرائيل المشطوبة من كتاب التاريخ ومستبدلة بكلمة فلسطين، هزيمة عام 1967، الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968، وحفلات «وودستوك» على التلفزيون، لتأتينا بعدها هذه العبارة كخلاصة لتجربته: «أقمتُ معارض بقدر ما شاركت في تظاهرات وأدركت كم أن الفن عاجز عن مساعدة اللاجئين وتسكين المجاعة».
لكن الرحلة الأهم تتمثّل في العودة إلى أرشيف الخوري الهائل الذي يبلغ أكثر من 50 ألف صورة. تعاون المصوّر اللبناني مع المؤرّخ الفني والمصوّر غريغوري بوشاكجيان، والكاتبة منال خضر، ومديرة دار «كاف» نور سلامة. اقترحت صاحبة الفكرة منال خضر العودة إلى أرشيف الخوري الذي يمتدّ منذ عام 1962 حتى اليوم، لاختيار صور من لبنان وجمعها في الكتاب. يمكن تخيّل صعوبة الإنتقاء من أرشيف يضم هذا العدد الكبير من الصور، رغم تنظيمه وترتيبه ضمن مجموعات من قبل الخوري.
الرحلة التي استمرّت لحوالى ثمانية أشهر، اصطدمت بأسئلة كثيرة، أهمها: «هل ما رفض من صور هو بذات أهمية ما اختير؟ كيف تصبح صورة ما أيقونية؟». تساؤلات يطرحها المؤرخ الفني اللبناني غريغوري بجاقجيان في مقالته الوافرة في الكتاب بعنوان «التنقيب في آثار فؤاد الخوري الفوتوغرافية»، التي تلي مقالة للخضر بعنوان «هوامش حميمة»، ونص لسلامة بعنوان «سفر تكوين الكتاب». تستدعي مقالة بوشاكجيان أسئلة كثيرة حول هذه التجربة: ما هي الصور التي يجب اختيارها؟

على أي أساس تتم المفاضلة بينها؟ وما الذي تحتفظ به الذاكرة من الصورة بعد رؤيتها؟ وغيرها من الإشكاليات التي تقع في صلب عمل فؤاد الخوري بشكل خاص، وترافق كل إنتاج فوتوغرافي بشكل عام. لا يمكن توقّع إجابات واضحة وحاسمة هنا، خصوصاً بفضل قدرة الصورة على استثارة بعض المشاعر الفردية جداً، والداخلية والغامضة.
في حديث معه، يخبرنا بوشاكجيان، أنه عندما بدأ فؤاد التصوير بشكل عفوي في الستينيات، لم يكن التصوير الفني منتشراً حينها. الخيارات كانت محدودة. بعد دراسته الهندسة المعمارية، ثم انصرافه إلى التصوير الفوتوغرافي مع بداية الحرب، كانت الاحتمالات محصورة أيضاً بالتصوير الصحافي، وملاحقة المعارك الحية والقتلى والجرحى والدم. عمل الخوري لأقل من عام في وكالة «سيغما»، قبل أن يتخلى عنه بالتزامن مع الهجوم على السفارة الأميركية في بيروت عام 1983. جاء هذا التخلي كمانيفستو لتجربة فؤاد الخوري الفوتوغرافية. مانيفستو أعلنته صوره قبل وقت طويل من قراره القاضي برفض قوالب الوكالات اللاهثة خلف الحدث الأساسي فحسب. لا يخلو أرشيف الخوري من لقطات لمعارك وحروب، إلا أن الكتاب لا يظهر أياً منها. يحوي المؤلف تلك الصور التي يعرف الخوري كيف يصنعها بتؤدة على هامش الأحداث الكبرى. الوجوه التي لا تتنبه إليها العدسات الجاهيرية.

«أقمتُ معارض بقدر ما شاركت في تظاهرات وأدركت كم أن الفن عاجز عن مساعدة اللاجئين وتسكين المجاعة»



نرى ثلاثة أشخاص يقفون في زاوية الصورة التي يبدو خلفها منزل قرميدي كبير، سنعرف أنها خلال حرب الجبل. النار بعد انطفائها تماماً في أحد أزقة وادي أبو جميل عام 1994، يظهر فيها دخان أمام سيارة مركونة جانباً. هياكل السيارات المحروقة تتقاسم فراغ المدينة الرياضية عام 1982. الطرقات التي تؤدي إلى أماكن مجهولة، وسكة القطار المقصوصة إلى نصفين في البقاع. هنا الصور مستسلمة تماماً للمكان والركام بلا مداخلات بشرية. مطمر البيال في وسط بيروت، بداية التسعينيات، يبدو امتداداً للتلال القاحلة في عيناتا. هناك حيوات وسير وقصص كاملة يتسع لها الحيز الضئيل لحركة التصوير الآلية المتمثّلة في رفع الكاميرا إلى العين وتصويب العدسة، والضغط على الزر. في العصر الذي تشهد فيه الفوتوغرافيا استهلاكاً غير مسبوق، يأتي نشر الأعمال داخل كتاب كحركة احتجاجية بذاتها... دعوة إلى البطء، لمنح الصورة أبديتها مجدداً.