لقد قاطعتُ برنامجَ «كلام الناس» في ربيع العام ٢٠١١، أي في عزّ المسيرات التي خرجتْ في لبنان مطالبةً بإسقاط النظام الطائفي، لأنّني قرأتُ دورَ البرنامج يومها على أنّه شاركَ بشكلٍ أساسي في تنفيس التحرّك. بالفعل، كانت المسيرات قد بلغت أوجَها: ففي ثالثِ مظاهرةٍ (إن لم أكن مخطئة) خرجت في بيروت، وصلَ عددُ المشاركين والمشاركات، وفق عدة تقديرات، إلى ٢٠ أو ٣٠ ألفاً. الحماسُ كان كبيراً، والناسُ من كلّ الأطراف يشاركون، ومن على شرفات البيوت في كلّ الأحياء التي مرّت بها المسيرة، كان الناس يرشّون الأرزَّ على المتظاهرين.
كبرَ الموضوع إذن، وشعرَ المشاركون في المسيرة بأنّ شيئاً ما يحدث. ربما هو شيء جديد. فالإلتفافُ الشعبيُّ بدأ يتوسّعُ فعلاً... وربما إستيقظَ في الناس أملٌ دفينٌ كانوا قد طمروه عميقاً في نفوسهم: أملٌ بأن يهزَّ شبابُ لبنان ولو جانباً من صيغةٍ طائفيةٍ أطبقتْ بحكمها الفاسد على الوطن، وأحالتْ كلَّ لبنانيٍّ إلى هويّته الضيّقة - حدَّ الإقتتال الذي لا ينتهي - على حساب هويّته الوطنية. نعم، ربّما شعرَ الناسُ بأنّ شيئاً ما قد يتغيّر أخيراً..
لكن. بعدَ تلكَ المظاهرةِ الحاشدةِ التي أطلقتْ الآمالَ بتغييرٍ ممكن، بادرَ مارسيل غانم إلى تخصيصِ حلقةٍ من برنامجه ذائع الصيت لهذا التحرّك المطالِب بإسقاط النظام الطائفي. وقبلَ أن أعرفَ من سيدعوهم غانم ليكونوا ضيوف الحلقة، طلبتُ، من موقع الصداقة، من مجموعةٍ أعرفُها كانت تشارك في تنظيم المسيرات والتحرّكات، عدمَ الخروج إلى الإعلام في هذا التوقيت، كون التحرّك ما زال في بداياته ولم يبلور بعد خطاباً متيناً واضحاً جامعاً. كان رأي الأصدقاء مخالفاً لرأيي: فلقد اعتبروا أنّ إطلالةً على برنامج تلفزيونيٍّ له نسبة مشاهدة عالية للحديث عن التحرّك، سيساعد بلا شكّ القضية. ثمّ علمتُ بأنّ من دعاهم مارسيل غانم ليكونوا الضيوف البارزين في البرنامج، هم مجموعة شبّان وشابات صغار في السنّ، يفتقدون إلى أيّ تجربة في المناظرات التلفزيونية. علاوةً على ذلك، قام غانم باختيارهم على أساس انتماءاتهم الطائفية المتنوّعة، لكي يشكّلوا، كما في كلِّ الصيَغ التي كان يقوم ضدّها التحرّك، «سلّةً طائفيةً». كرّرتُ بإلحاح على الأصدقاء دعوتي إلى رفض المشاركة في البرنامج، وخاصّةً في هذه الشروط: فكيف يخرجُ من يتحدّثون باسم «إسقاط النظام الطائفيّ»، وقد تمَّ اختيارهم على أساس طوائفهم؟ لكنني لم أفلح في إقناعهم...
كانت الحلقةُ كارثيةً في نظري. فلقد دعا مارسيل غانم صحافياً ينتمي إلى تيارٍ سياسيٍّ محافظٍ، وله خبرةٌ في الظهور الإعلاميّ والحوار التلفزيونيّ، فوضعَه في مواجهةِ مجموعةٍ «مراهقةٍ» في هذا المجال. إختلَّ التوازنُ في النقاش منذ البداية: كان الضيف هجومياً، بينما كان الشباب في موقع الدفاع المتلعثِم. ثمّ ما لبثَ أنْ بادرَ غانم إلى توجيهِ أسئلةٍ طائفيةِ الصبغة على هؤلاء الشباب، طالباً منهم مباشرةً الإفصاح عن طائفتهم: بعضهم لم يجب، وبعضهم أجاب وتعثّر، محاولاً تفسير أنّ انتماءه الطائفي لا علاقة له بمشاركته في التحرّك لإسقاط النظام الطائفي.
كان الأمر كارثياً بالفعل: فمِنْ خلالِ اختيارِ غانم لهكذا ضيوف، ثمّ وضعِهم في مواجهة هكذا محاوِر، ومن خلالِ توجيهِه تلك الأسئلة إليهم، ومن خلالِ قلّةِ خبرتِهم في هكذا جدلٍ تلفزيوني، تظهّرتْ صورةٌ سلبيةٌ جداً للتحرّك، فبدا كأنّه «فشّة خلق مراهقين» لا يتمتّعون بأيٍّ من مؤهّلاتِ قيادةِ تحرّكٍ تغييريٍّ بهذا الحجم. وجاءتْ النتيجة: فالمظاهرةُ التي تلتْ مباشرةً هذه الحلقة لم تستقطبْ سوى عددٍ قليلٍ من الناس. هكذا، وفي غضونِ أيامٍ فقط، تراجعَ عدد المشاركين في المسيرات من عشرات الآلاف إلى بضعة مئات أو أكثر بقليل. لقد فعلتْ الحلقة فعلَها، أو هكذا قرأتُ الموضوع في حينها(1)، إذ تمَّ في نظري تنفيس التحرّك من خلال اعتماد خيارات محدَّدَة من قِبَل البرنامج ومقدِّمه:
- دعوة أشخاصٍ لا يتمتّعون بخبرةٍ إعلاميةٍ تلفزيونية؛
- وضعُهم في مواجهةِ محاورٍ متمرِّسٍ في السجال التلفزيونيّ؛
- اختيارُهم على أساسِ طوائفهم؛
- حشرُهم في هويّتهم الطائفية والإلحاح في تبيان تناقضاتهم.
وبما أنَّ هذه الخيارات تشكّلُ معطياتٍ موضوعيةً، لا تأويلية، لكيفية بناء الحلقة وإدارتها، يمكن أن نرى كيف يستطيع صاحبُ منبرٍ تلفزيونيٍّ مهمٍّ، في تعاطيه أو تغطيته لأيِّ حدث، أن يبرزَ جوانبَ ويغضَّ النظرَ عن أخرى، وأن يأتي بمن يقدّمون رؤيةً معيّنةً للحدث.

هناك من يلجأ إلى «مفهوم» الحرية فقط من أجل الدفاع عن حقّه في ألا يكونَ عدواً لإسرائيل
كما يمكن أن نرى كيف يعمل هذا الإعلام، وغيره، وتحت مسمّى الموضوعية وحرية التعبير، على التأثير على الرأي العام لدرجةِ دفعه، كما في هذه الحالة، إلى التغيير من موقفه. بهذا المعنى، فإنَّ الخيارات التي يقوم بها هذا الإعلام، والتي تبدو موضوعيةً في الظاهر، هي في الأساس استراتيجياتٌ إعلامية، تُفعِّلُ في العمق موقفاً سياسيّاً من حدثٍ أو من قضيةٍ ما(2).
قاطعتُ البرنامج إذن بعد هذه الحادثة، لأنني اعتبرتُ أنّه لعبَ دوراً إعلامياً سياسياً، من خلال مجموعة الخيارات التي قام بها، في المساهمة في إنهاءِ تحرّكٍ شعبيٍّ مهمّ.
مؤخّراً، وبعدما أُثيرَ جدلٌ حولَ نفسِ البرنامج خلال أزمة «إستقالة» الرئيس الحريري، شاهدتُ على الإنترنت مقاطعَ من الحلقة موضوع السجال، وخاصّة المقطع الذي هاجمَ فيه الضيفان الجيش اللبنانيَّ ورئيس الجمهورية، متهّمين إياهما بمساندة الإرهاب، فيما اكتفى مارسيل غانم إما بالصمت، وإما بردّة فعله الشهيرة، التي تدّعي الصدمة: «أف!»... إستضافَ إذن إعلاميّ لبناني أشخاصاً انبروا، مباشرةً على الهواء، إلى إتّهام دولتِه، بشعبها وبجيشها وبرئيسها، بالإرهاب وبدعم الإرهاب، فلم يبادرْ إلى أيّ ردّةِ فعل، تاركاً لضيفه من «الرأي الآخر» مهمّة التعبير عن الإعتراض. وهو في هذا يقوم، بنظره، بدوره الإعلامي الموضوعي، أي أنّه يستضيف أشخاصاً لديهم آراء متباينة، فيكتفي بإدارة الحلقة والنقاش. وهذا هو دور الإعلامي كما يُنظر إليه في كل البلدان التي تحترم حرية التعبير وتمارسها. هكذا قيل وهكذا يقال.
لكن: هل إنّ إتّهام شريحةٍ واسعةٍ من الشعب اللبناني، كما والجيش اللبناني ورئيس الجمهورية اللبنانية، بدعم الإرهاب، وعلى وسيلة إعلامية لبنانية، هو حرية تعبير، أم أنّه يدخل ضمن إطار ما يحاسب عليه القانون، من تعرّض لرموز الدولة وإثارة للنعرات الطائفية؟ هذا أولاً. ثانياً، لقد رأينا هذا الإعلامي نفسه، الذي قرّرَ هنا عدم التدخّل في السجال بحجّة حرية التعبير واقتصار دوره على إدارة الحلقة بشكل موضوعيّ، لقد رأيناه يتدخّل مراراً وتكراراً في ظروفٍ أخرى، وعلى مدى سنوات برنامجه، لإيقاف حديثِ ضيفٍ ما، أو لقطع مكالمةٍ تحريضية، أو لإبداء رأيٍ ما. لكنّه لم يقل شيئاً عندما تعدّى ضيوفه غير اللبنانيين، على شعبه وجيشه ورئيس دولته، وعندما تخطّوا حدود القانون اللبناني.
فهل كان دور هذا الإعلاميّ وبرنامجه، في هذه الحلقة كما في حلقة العام ٢٠١١، دوراً إعلاميّاً حياديّاً موضوعيّاً؟ أم كان دورهما، في هذه الحلقة كما في حلقة العام ٢٠١١، عبارةً عن ممارسةٍ لموقفٍ سياسي بصيغةٍ إعلاميةٍ تدّعي الموضوعيةَ والدفاعَ عن حرية الآراء، في الوقت الذي تقومُ فيه بخياراتٍ في الشكل وفي الأداء تدلُّ بالتحديد على هذا الموقف السياسيّ الواضح؟
أما حلقة الخميس الفائت، فلقد جمعت مارسيل غانم بزياد دويري وبعدد من المدافعين عن «حرية التعبير» أو «حرية الرأي»، وهي «المصطلحات» التي تُستعمل اليوم، في نظري، لا بكونها مصطلحات فلسفية إنسانية محضة، بقدر ما تُستعمَل بكونها شعارات سياسية. ذلك أنَّ حريةَ التعبير تفترض، بالمبدأ، تبادلاً بين طرفيْن (أو أكثر) لا يتّفقان بالضرورة في الرأي: جهةٌ تعبّر وجهةٌ تعترض، أو جهتان تعبّران، واحدة مع، وواحدة ضد. لكن ما يطالبُ به المدافعون عن «حرية التعبير»، هو أن يُسمح لهم هم بالتعبير، وهو تعبيرٌ يخرقُ في جوانب منه قوانين الدولة (مثل التعامل مع إسرائيل، والتعرّض لهيبة الدولة، وإثارة النعرات الطائفية)، وألّا يُسمح لمن يعترضُ على تعبيرهم هذا بالتعبير، وإن عنى هذا الإعتراض المطالبة بتطبيق القوانين. فكيف تستقيم هكذا معادلة؟ وأين المساواة في التعبير عن حرية الرأي؟ وأيضاً: من هو فعلاً القامع للتعبير هنا؟ أهو من يطالبُ بتطبيقِ القانون، وبحماية العقد الإجتماعيّ الوطنيّ، وينتقد من يقومُ بتهديدهما؟ أم هو من يخرقُ القانون، ويهدّدُ العقدَ الوطني، ويدينُ المعترضين عليه(3)؟
يمكن أن نفهم من ذلك، أنَّ ثمةَ من يلجأ إلى «مفهوم» الحرية فقط من أجل الدفاع عن حقّه في ألّا يكونَ عدواً لإسرائيل، وفي أن يكونَ، بالتالي، معادياً لمن يرون في «إسرائيل» عدواً. لكنّ هذا موقفٌ سياسيٌّ بحت، لا علاقة له بالدفاع عن الحريات. فالدفاعُ عن الحريات يقتضي، بالمطلق وبالمبدأ، ووفقَ المفهوم الإنسانيّ الحرّ الذي يدّعي هؤلاء التحدّثَ به، الدفاعَ عن حرية الشعوب في تحرير أرضها، والدفاع عن حرية الشعوب في مقاتلة من يحتلّ أرضها، والدفاع عن حرية كلّ من يساند هذه الشعوب في حربها ضد المحتلّ، في أن يعبّر بكلّ الوسائل عن موقفه، لا بل الدفاع عن حريّته في تجييش كلّ إمكاناته للتصدّي لما يراه مشروعَ إحتلالٍ وإستعمارٍ لأرضه ولمنطقته ولفكره ولتاريخه.

الحرية تقتضي استقلاليةً في الفكر والإعلام والإنتاج الثقافي

لكنّ الموضوع ليس موضوع حريات، بل هو سعيٌ إعلاميٌّ ثقافيّ، أي سياسيٌّ- فكريّ، لإقناع الجهات المناهضة للإحتلال وللإستعمار، بأنَّ معركةَ التحرّر قد انتهت، وبأنّه يجبُ تركَ السلاح، كلّ السلاح، من أجل الإنضمام إلى «العالم الحرّ الديموقراطيّ المتحضّر». لا بأس، فهذا جزءٌ من المعركة الثقافية والإعلامية، أي السياسية - الفكرية، بين الطرفين (والتي لها امتدادات عسكرية وأمنية على الأرض)، وهذه المعركة ليست جديدة، بل هي قديمة جداً. فالمصطلحات التي تُستعمل اليوم، من قِبَل الخطاب الإعلاميّ السائد، تنتمي، في العمق، إلى منطقٍ فكريٍّ سياسيٍّ إستعماريٍّ (بالمعنى القديم المباشر وبالمعنى الحديث المُعَولَم)، لطالما قاربَ العالمَ وفقَ معادلاتٍ ثنائيةٍ جوهرية، تضعُ كلَّ طرفٍ من المعادلة في موقعِ النقيضِ للطرفِ الآخر: هكذا يرى هذا المنطق الفكريّ أنَّ هناك «عالماً حرّاً»، وعالماً غير حرّ، وأنّ هناك عالماً «متحضّراً»، وعالماً «متخلّفاً»، وأنَّ هناك «إرهابيين» ومحاربين للإرهاب. ووفق هذا المنطق الفكريّ، فإنّ كلَّ من يقفُ مع العالم الحرّ والمتحضّر والمحارب للإرهاب، هو حرّ ومتحضّر وديموقراطيّ، وأنَّ كلَّ من يقف ضدّ هذا العالم فهو غير حرّ ومتخلّف وإرهابي. وفي بلادنا التي يَسِمها هذا المنطق بالتخلّف، ثمّة تبعية فكرية لهذا المنطق الإستعماريّ، تتجلّى في تبنّي موقف المستعمِر في النظر إلى قضايا المنطقة: هكذا لا تعود «إسرائيل» عدواً، لأنّ «العالم الحرّ المتحضّر الديموقراطي» لا ينظر إليها على أنها عدوّ (بل هي حليف له). وبالتالي: لا بأسَ في تصويرِ فيلمٍ فيها. كذلك، فإنّ من يحارب «إسرائيل» هو «غير حرّ ومتخلّف وإرهابيّ»، ذلك أنّ نفس ذاك «العالم الحرّ المتحضّر الديموقراطي» ينظر إليه هكذا. وبالتالي: لا بأس في الهجوم عليه وعلى كلّ من يدعمه واتّهامهم بالإرهاب. فالمدافعون عن تهجّم البعض على رموز الدولة، بل على الشعب اللبناني، لا يعتبرون أصلاً هذا التهجّم مشكلة: فبما أنهم لا يعتبرون «إسرائيل» عدواً، فإنهم لا يرون مشكلة في تصنيف محاربيها وأعدائها في خانة الإرهاب. المسألةُ هي إذن مسألةُ تبعيةٍ فكرية سياسية بالمعنى التاريخي، وهي تَستخدمُ اليوم «مصطلحات» مثل «حرية التعبير»، لا لتدافعَ عن حرية التعبير، بل لتدافع عن موقفها الفكريّ-السياسيّ التابع.
أخيراً، ربما لا تعتبر هذه الفئة من «المثقّفين» أو من أصحاب التأثير في الرأي العام، أنّ لدى لبنان دولةً وجيشاً وشعباً جديرين بالإحترام أو بالتقدير. ربما لأنّ هذه الفئة لا تشعر بالإحترام لذاتها المنتمية لهذا الوطن ولهذا الشعب. فهي تفضّل التشبّه (وما هو بتشبّه لأنّ التشبّه يفترض المساواة بين الطرفين) بمن تعتقد أنّهم الأولى باحترامها وتقديرها، أي «العالم الديموقراطي الحرّ المتحضّر»(4). هذا هو عين العقل المستعمَر. هذه هي عين التبعية. وهذه ليست لا حرية رأي، ولا حرية تعبير: هذه، بالتحديد، عكس الحرية: فالحرية تقتضي استقلاليةً وسيادةً في الفكر وفي القرار وفي الإعلام وفي الإنتاج الثقافي. وليس ذلك من أسس التيّار السياسيّ الفكريّ الثقافيّ الذي يدّعي الدفاع عن الحريات، في حين أنّه سلّمَ عقلَه وروحَه وممارستَه للآخر، وذلك حدّ الإستلاب: إستلاب الذات.
غير أنّ منطق التاريخ، في ديناميّاته الأساسية لا بل التأسيسية، لم يقفْ يوماً عند عتبة التبعية، بل كان وسيظلُّ يتخطّاها صوبَ حريةٍ لا تكونُ إلا تحريراً وتحرّراً.

هوامش

1- # لكن، وللأمانة: بقدر ما يُلام البرنامج ومقدّمه على تنفيس التحرّك، يُلام مَنْ قَبِلَ المشاركة فيه، وبهذه الشروط، ولم يعرف كيف يدافع عن أفكاره وبرنامجه. لذا، لا أسف على تحرّك إن كان من «يقوده» على هذه الشاكلة. لكنّ التحرك لم يكن فقط هؤلاء، إنما كان أيضاً الناس الذين شاركوا وهؤلاء لم يكن لهم أي مكان في هذه القصة. وكانوا هم الخاسرين الأكبر.
2- ولا شكّ في أنّ الإعلام الغربيّ السائد (mainstream media) هو الذي فهم وطوّر هذه المقاربة الإعلامية القائمة على شكل يبدو موضوعياً، لكنه ليس كذلك في العمق. فهذا الإعلام يستعمل مصطلحات مثل الموضوعية، وحرية الرأي والرأي الآخر، لكي يمرّرَ مقاربته السياسية للقضايا والأحداث. فلنأخذ مثلاً الصيغة، أي الشكل، الذي يعتمده هذا الإعلام لتبيان مدى موضوعيته وحريته: يدعو ضيفين أو يعرضُ لرأيين من وجهتي نظر مختلفتين، فيبدو للوهلة الأولى أنه أنصفَ الجانبين، وبقي هو على الحياد. لكن علينا أن نسأل مثلاً: من هما هذان الضيفان؟ وهل أنّ موقعهما وثقافتهما وقدرتهما على التعبير متساوية؟ كم من الوقت أُعطي لكلّ منهما؟ ما هي الأسئلة التي وُجّهت لهما؟ وهل فيها تساوٍ في النبرة والأسلوب؟ هل حشر المقدّم بأسئلته ضيفاً على حساب آخر؟ ما هي الصور أو الريبورتاجات التي عُرضت للتدليل على موقف هذا وذاك، وكيف تمَّ إخراجها؟ بهذا المعنى، إنّ على من يريد فهم استراتيجيات الإعلام أن يدرسَ كل الخيارات التي يقام عليها البرنامج، لكي يفهم كيف يمكن بناء رأي عام والتأثير عليه، تحت شعار الموضوعية وحرية التعبير.
3- وفق نفس المنطق تماماً، تصرّفت مثلاً مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية الساخرة: عندما أعادت نشر الكاريكاتور المهين عن الرسول الأكرم، قال القيّمون على المجلّة إنهم فعلوا ذلك بحجّة حرية التعبير وحرية الرأي، ودفاعاً عما تعرّضت له مجلة دنماركية لنشرها الكاريكاتور. فلنفترض أنّ هذا صحيح. لكن كيف نفسّر أنّ نفس المجلة، بل إنّ كلّ الإعلام الفرنسيّ السائد شنّ هجوماً شرساً على الفنّان الكوميدي «ديودونيه»، فقط لأنه نشر على حساب الفايسبوك جملةً استهزأ فيها بشعار «أنا شارلي»؟ وقد وصل الموضوع حدّ رفع دعوى ضده أمام المحكمة بتهمة التحريض على الإرهاب، بل وصل الأمر، وبسبب تلك الجملة الساخرة، حدّ مجيء الشرطة إلى بيته لإستجوابه عند السادسة فجراً! فهل لمجلة «شارلي ايبدو» حرية التعرّض بالإهانة لمشاعر كلّ المسلمين، وهل للإعلام حرية الدفاع عنها، وليس لممثّل كوميدي حرية التعرّض بالسخرية لشعار ما؟ فالتصرّف الأوّل هو حرية في التجديف، كما قال علانية كثيرون، والتصرّف الثاني هو إهانة للمشاعر ودفاع عن الإرهاب.
4- هكذا يريد لنا هؤلاء أن ننسى ما قام به زياد دويري، بل أن نقدّر ما هو عليه، فقط لأنّه تمّ ترشيح فيلمه الأخير لجوائز الأوسكار التي يقرّرها مئات العاملين والمدراء في شركات هوليوود. كأننا لا نعرف ما هو الفكر وما هي السياسة التي تهيمن على شركات الإنتاج في هوليوود وغيرها من المنابر السينمائية العالمية، كأنه يمكن لفيلم يهاجم «إسرائيل» أو الولايات المتحدة أن يجد طريقه لا إلى الأوسكار، بل حتى إلى الإنتاج! لا تصل إلى هذه المنابر إلا الأفلام التي لا تمتّ إلى السياسة بشيء، أو الأفلام التي تنضوي فكرياً وسياسياً في منظومة «العالم المتحضّر الحرّ الديموقراطي».
* أكاديمية ومترجمة لبنانية