القاهرة | تسريب جديد يثير الشكوك حول كيفية إدارة الإعلام في مصر. مرة أخرى، يثبت الإعلام المصري أنه يعيش أسوأ أيامه، وتثبت الأجهزة الأمنية (إن صحت التسريبات) إيمانها بأن إعلام الستينيات، هو أفضل أشكال الإعلام، حيث الصوت الواحد، والرأي الواحد، والصف الواحد الذي لا يجوز الخروج عنه.
ومن يخرج، سيكون مصيره الجلوس في البيت، أو كما يقول المصريون «هيلبس الجلبية البيضا».
«تسريب القدس» ليس الأول، الذي يؤكد التعاون بين مقدمي البرامج ورؤساء التحرير والأجهزة الإعلامية، وليس الوحيد الذي يثبت أن الإعلام في مصر يسير بمكالمة هاتفية. مع ذلك، أثار هذا «التسريب» موجة كبيرة من الجدل.
القصة بدأت بتقرير نشره الصحافي الأميركي المقيم في القاهرة ديفيد د. كيركباتريك، في جريدة «نيويورك تايمز» (7/1/2018) يؤكد فيه أنه حصل على تسجيلات لشخص يسمى «أشرف الخولي» يدّعي أنه يعمل في أحد الأجهزة الأمنية. في هذا التسجيل، يشرح الخولي للإعلاميين الموقف المصري من إعلان دونالد ترامب، نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ويتابع الخولي أنّ الموقف المصري يرى ضرورة إعلان استنكار الإعلان، لكن في الوقت نفسه لا بد من عدم الانسياق وراء دعوات إلى التظاهر أو الانتفاض على القرار «لأن هذا ليس في صالح القضية الفلسطينية».
الصحافي الأميركي قال إن التسجيلات التي بحوزته تخص الإعلاميين مفيد فوزي، وعزمي مجاهد، وسعيد حساسين، والفنانة يسرا.
وبعيداً عن وضع الإعلام الذي لا يخفى على أحد، لا بد من تسجيل بعض الملاحظات، أولها أنّه فيما يبدو من التسجيلات المسرّبة التي بثتها قناة «مكملين» الإخوانية (تبث من تركيا) مساء الأحد، أنّها تمت في بداية كانون الأول (ديسمبر)، لأن الشخص الذي يدّعي أنه ضابط في المخابرات الحربية، يُبلغ الإعلاميين بقرار ترامب. علماً أنّ القرار اتخذ في 6 كانون الأول. وكذلك، كانت يسرا تشارك في «مهرجان دبي السينمائي» (بحسب نص مكالمتها) والمهرجان افتتح في 6 كانون الأول أيضاً، وبالتالي فالمكالمات كانت في تلك الفترة أي أوائل كانون الأول.
الملاحظة الثانية أن الجهة أو الشخص الذي قام بالتسجيل، كان يسجل للشخص الذي يدّعي أنه ضابط وليس للإعلاميين، لأنه بحسب التسجيلات، صوت الضابط واضح بينما صوت الإعلاميين الأربعة غير واضح.

بثت التسريبات
قناة «مكملين» الإخوانية التي تتخذ
من تركيا مقراً لها

الملاحظة الثالثة أنه لو افترضنا صحة التسجيلات، فلا جهة يمكنها التسجيل إلا الجهة التي يعمل فيها هذا الضابط، أي المخابرات الحربية. وبالتالي، يجب طرح السؤال المهم عن المصلحة التي تجعل تلك الجهة تسرّب تلك التسجيلات.
الملاحظة الرابعة هي: كيف وصلت تلك التسجيلات في الوقت ذاته لصحيفة «نيويورك تايمز» وقناة «مكملين» الإخوانية معاً؟
أمام الملاحظات الأربع، من المهم البحث عما فعله من شملهم التسجيل بعد إعلان قرار ترامب بنقل السفارة للقدس.
قامت «الأخبار» بمتابعة ما قام به من شملهم التسريب ورد فعلهم بعد تلقي هذه التعليمات (إن صحت) أولهم الإعلامي مفيد فوزي. الأخير لا يقدم أي برنامج حالياً، ويذاع له برنامج قديم على فضائية «أكسترا نيوز»، ويكتب مقالات في جريدة «المصري اليوم» (الخاصة) وفي مجلة «صباح الخير» الحكومية. بتتبع ما كتبه بعد هذا التاريخ (6 ديسمبر) حتى الآن، فإن مفيد لم يكتب عن قضية نقل السفارة للقدس، ولم يقدم أي مداخلة تلفزيونية عن الموضوع.
الإعلامي الثاني الذي ورد اسمه في التسجيلات هو سعيد حساسين عضو مجلس النواب الحالي، والمالك السابق لفضائية «العاصمة». كان يقدم برنامجاً على القناة نفسها، وقرر «المجلس الأعلى للإعلام» في آب (أغسطس) 2017، وقف البرنامج لمخالفات مهنية. وهذا الوقف سبق إعلان ترامب بحوالى 4 أشهر، ولم تجد «الأخبار» أي مداخلات لحساسين مع أي برنامج مصري يتحدث فيه عن قرار نقل السفارة إلى القدس. وأصدر حساسين بصفته النيابية بياناً انتقد القرار وطالب «جميع الزعماء والرؤساء والقادة العرب بسرعة التحرك والجلوس على مائدة حوار واحدة من أجل تحقيق المصالحة العربية الحقيقية».
وفي البيان اعتبر أن «الأوضاع العربية المؤسفة وحالة الانقسام والمشكلات والفوضى والأزمات التي طالت العديد من الدول العربية مثل ما يحدث بسوريا والعراق واليمن وليبيا كانت سبباً رئيسياً في أطماع الصهيونية العالمية في اغتصاب القدس العربية الإسلامية الفلسطينية».
وهذا فقط ما قاله حساسين في هذه القضية، أما الفنانة يسرا فأيضاً لا تقدم أي برامج على أي شاشة مصرية حالياً ولم تقم بأي مداخلات تتناول هذا الموضوع.
والشخص الرابع الذي شمله التسريب هو عزمي مجاهد، مقدم برنامج «الملف» على فضائية «العاصمة». قال صحافي الـ «نيويورك تايمز» إنه اتصل بمجاهد و«أكد على صحة المكالمة وأن الضابط أشرف الخولي صديقه ويتصل به باستمرار». بالبحث عما قاله مجاهد في قضية نقل السفارة الأميركية للقدس، فإن مجاهد في الليلة التي أعلن فيها ترامب قراره، هاجم من اسماهم الخونة الذين يسعون لإسقاط مصر، وأضاف: «مش قلتلك إن اللي متغطي بأمريكا عريان.. هي دي بقى الخطة اللي معمولة لتقسيم الوطن العربي». ومما سبق، يتضح أن هناك حلقة ناقصة في التسجيلات التي نشرتها «نيويورك تايمز» وأذاعتها قناة «مكملين» الإخوانية، وهو مثار جدل حقيقي في الشارع المصري. إذ يعتقد فريق أن هذه التسجيلات فخ وقع فيه الإعلاميون الثلاثة ومعهم الفنانة يسرا، بينما يرى فريق آخر أن التسجيلات مفبركة من الأساس. والفريق الثالث يرى أن التسجيلات تثبت ما هو معلوم بالضرورة (توجيه الأجهزة للإعلام) وفريق أخير يؤمن بصحة التسريبات وحقيقتها.
أما الهيئة العامة للاستعلامات (الجهة الرسمية المسؤولة عن التعامل مع وسائل الإعلام الأجنبية)، فأصدرت بياناً مساء السبت الماضي، أكدت فيه على أنه لا ضابط في المخابرات الحربية يدعى «أشرف الخولي» الذي ورد ذكره في التسجيلات. وأكد البيان أنه اتصل بالأربعة الذين ورد ذكرهم في التسريبات وأكدوا على عدم صحة الواقعة وأنهم سيتخذون الإجراءات القانونية تجاه «نيويورك تايمز». المفارقة الأخيرة في قصة تسريبات القدس أن التشكيك يدور حول كون شخصية الضابط أشرف الخولي حقيقية أم لا. لم يشكك أحد للحظة أنّ الإعلام المصري يسير بتوجيهات عليا، وهو ما يعيد طرح السؤال الأهم حول حدود العلاقة بين الإعلام والأجهزة الأمنية في ظل حكم السيسي، ودور هذا الإعلام في الفترة المقبلة التي يُفترض أن تشهد انتخابات رئاسية.