أخيراً، يصل «نار من نار» (Still burning ----- 2016 --- 110د) للبناني جورج هاشم إلى صالات بلاده بعد غد الخميس، بعد أكثر من عام على عرضه الأوّل في العالم ضمن «مهرجان دبي السينمائي الدولي» 2016.
ليس بالزمن القصير، ولا يمكن القول إنّ تجوال الشريط أو توزيعه كان سهلاً أو يسيراً. هل يعود السبب إلى كونه إنتاجاً لبنانيّاً صرفاً من دون شريك أجنبي (إنتاج جورج هاشم وحسين غريب)؟ سؤال التوزيع شائك دائماً في السينما العربيّة. هنا، يتسق مع صعوبة رحلة التصوير على مدى عامين (2014 – 2015). الاكتمال بالنموّ التدريجي، من خلال تصوير جزء ثمّ تأمين تمويل لتصوير آخر وهكذا... لا شكّ في أنّ الصبر آتى أكله في النهاية. ذلك أنّ «نار من نار» تحفة مظلمة عن الأنا المتعدّدة، واغتراب الفرد داخل نفسه أولاً، ومحيطه ثانياً. ميلانكوليا كابوسيّة تضعنا بقسوة أمام سؤال الهويّة المشروخة، ضمن بلاد حائرة، مليئة بعقد النقص. تباغتنا بمدى التهتّك الداخلي، وقابلية الحقد والكره للتغوّل والسيطرة. لا جدوى من السعي إلى الخلاص. هذه أرواح ملعونة إلى الأبد.
كما في «رصاصة طايشة» (2010 ـــ المهر الذهبي لأفضل فيلم عربي في الدورة السابعة من «مهرجان دبي السينمائي الدولي»)، يستوحي هاشم مناخات الحرب الأهليّة، لنسج مثلث علاقات مأزوم بين زوجين وصديقهما المشترك. هذا لا يعني أنّ صاحب الروائي القصير «قدّاس عشيّة» (2009)، يقطع الطرقات نفسها، نحو قول الكثير عن هويّة بلاده وبعض ناسها، بل يتّكئ على زمن حرب ثمانيني موازٍ للحاضر، لخلق حياة مشتهاة لمن لا يمتلكها.
«أندريه» (وجدي معوّض) سينمائي لبناني مقيم في باريس. يصنع روائياً أوتوبيوغرافياً بعنوان «نار»، عمّا يُفترَض أنّه عايشه خلال الحرب تحت اسم «محمد». عشيقته «نادين» أنا فيلميّة لـ «أميرة»، تلعبها الممثّلة «كاميل» (عديلة بن ديمراد). هي زوجة صديقه «وليد» (فادي أبي سمرا). الأخير يحمل اسم «إيلي» (رودريغ سليمان) في الشريط، الذي يبصر النور تحت عنوان «نار».

يقدّم لنا هاشم درساً في الاشتغال على الأبعاد والتشكيل بالضوء
نحن في مطلع الألفية. يُعرَض الفيلم ضمن «بينالي السينما العربيّة» في معهد العالم العربي في باريس (توقف الحدث عام 2008)، ليظهر الصديق القديم من دون سابق إنذار. يحصل اللقاء المرتقب. نعلم أنّ سرطان الرحم أودى بأميرة، فهاجر وليد إلى مونتريال، ليرأس تحرير مجلة تعنى بالفرنكوفونيّة. المخرج يستفيد من مناخ الحريّة في فرنسا، للعمل وكسر تابوهات لن تمرّرها الرقابات العربيّة.
نعم، الخريطة ليست بسيطة. بين الحاضر والماضي، وبنية «فيلم داخل فيلم»، لا يسلّم السرد مفاتيحه بسهولة. يمعن في توريط المتفرّج ضمن لعبة جهنّمية من الواقع الحقيقي والآخر المتخيّل/ المشتهى. يتحدّاه للتفريق بينهما. يدعوه إلى تفكيك كلّ منهما إلى سيرته الأولى، تمهيداً لتركيبهما كقطع البازل وفق مرجعياته وفهمه الخاص، ما يضيف مزيداً من المستويات والإحالات. لتحقيق كلّ ذلك، يستفيد جورج هاشم من تاريخه المسرحي في التمثيل والإخراج، وتخرّجه من الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، والإخراج السينمائي من «معهد لوي لوميير» في فرنسا.
«نار» شريط جاء من «نار» الذاكرة والحرب. ثمّة جحيم مستعر داخل النفوس، منذ أيام السهر في ملهى «فيرتيغو»، بينما يرجّ القصف بيروت المقسّمة في الخارج. لقاءات خاطفة مع عشيق، وميليشيات توقف النّاس في الشارع، عناصر تحيل على «رصاصة طايشة»، قبل أن تبتعد إلى مسارها الخاص. لقاء الصديقين العاشقين للسينما، يفجّر الحمم. يؤكّد أنّ الحرب مستمرّة بشكل آخر. يستدرج مكاشفةً تقشعر لها الأبدان. يفرد حمولةً عن الأنا المتعدّدة والهويّة المضطربة، عن ضحايا تائهين لم يلمسوا أحلاماً تاقوا لها طويلاً، عن عاشق مرفوض يراها هانئةً في حضن زوجها المبدع (صانع أفلام وكاتب ومبرمج في النادي السينمائي). هذا يؤجّج حقداً مجاوراً لحبّ الصداقة، فيقرّر التحوّل إلى سينمائي/ خالق. يتّخذ من النيغاتيف وسيطاً خيالياً، لصنع حياة موازية عجز عن تحقيقها على الأرض (الوسيط الحقيقي)، مع تغيير سمات كلّ فرد وفق مشتهاه، بل وعقد نقصه تجاه الآخر. تزوير يذكّرنا بشيء من «السيّد ريبلي الموهوب» (1999) لأنتوني مينغيلا، مع تحوّل القتل من فعل حقيقي إلى مجاز فيلمي. هو الخطوة السابقة لمراحل المكاشفة (التجاهل ــ التحريض والاستفزاز ــ الانفجار ــ المطاردة ــ البوح في مشهد خلّاب ــ الاعتراف).
نحن على موعد مع سينماتوغرافيا كابوسية لأندرياس سينانوس، الذي عمل مع أنجيلوبولوس طويلاً. هناك درس في الاشتغال على الأبعاد والتشكيل بالضوء. أداء خلّاب عموماً، خصوصاً فادي أبي سمرا ووجدي معوّض. موسيقى زاد ملتقى تخترق النخاع الشوكي. إيقاع ثقيل يعزّز الميلانكوليا والجحيم الداخلي (توليف إلياس شاهين). بالمحصلة، ثمّة أفلمة مغايرة ذات بصمة خاصّة على السينما اللبنانيّة، والعربيّة عموماً.

«نار من نار» (Still burning): بدءاً من بعد غد الخميس في الصالات اللبنانية