منذ حوالى عشر سنوات، وقعت على عدد من مجلة «باري ماتش» الفرنسية، وكانت تحمل على غلافها صورة مارك هالتر (Mark Halter) الصهيوني الفرنسي من أصول رومانية. لم تكن صورته التي أغرتني بشراء المجلة، بل الموضوع الذي يناقشه ويتحدث عنه: أين هي قانا التي شهدت أولى معجزات السيد المسيح؟ اشتريت المجلة فقط لأعرف ماذا سيقول هذا المتصهين عن قانا الجليل التي هي على مرمى حجر من صور حيث ترعرعت والتي اكتشفتها وأنا صغير بتماثيلها وأجران النبيذ وخلافه.
قرأت المقابلة والدراسة التي قام بها هذا الإنسان وفاجأني: لقد سمّى ما لا يقل عن خمس قرى تدعى قانا وكلها في فلسطين المحتلة ودل عليها جغرافياً. تفاجأت وقلت في نفسي: ما لهذا الإنسان الذي لم يسمع بقانا اللبنانية، واستنتجت أن الهدف من المقالة هي انتحال قانا الفلسطينية وضمها للكيان العبري.
طبعاً أيقنت أن الصهاينة قد أخذوا فلسطين الأرض، وها هم يحرمون لبنان من معلم ديني نحن بانتظار أن يفتح ويكرس محجاً للكاثوليكية جمعاء. استيائي لم يدم طويلاً. في اليوم التالي قرأت عن مسرحية جلال خوري الجديدة بعنوان «قانا» التي كانت تعرض في «مسرح مونو». ذهبت في نفس الليلة، وكلي حماس لأرى مسرحية موضوعها قانا: قانانا!
نزلت الدرج المؤدي الى المسرح وطلع جلال خوري في وجهي. كانت المرة الأولى التي أراه فيها شخصياً. قلت له من دون مقدمات: هل قانا موضوع مسرحيتك هي قانانا؟ وقال: وهل من قانا غيرها! أثلج قلبي، فقلت مازحاً: تعرف أنك تشبه لورنس اوليفييه؟! قال: لا بل أعتقد أنني شبيه عمر الشريف ضاحكاً.
كانت المسرحية رائعة كما هو جلال خوري، توطدت العلاقة وأصبحنا صديقين بكل معنى الكلمة: أهدانا مسرحياته وأهديته كتبي، وكان أحد مقاهي ساحة ساسين يجمعنا دورياً لأكلّمه عن موضوع كتاب أكتبه، ولكن بالخصوص لأسمع منه كلاماً في كل المواضيع: كنا نتكلم بالدين كما بماركس، بالفلسفة كما بموسيقى الجاز. كان رجلاً موسوعياً يبهرني بوسع ثقافته وبإلمامه بشؤون المجتمع والدنيا.
وكانت كل جلسة تنتهي بـ «كسدورة» الى «مكتبة أنطوان» لشراء أي كتاب يستهوينا، وكثيراً ما اكتشفت أن الكتاب الذي استهواني كان جلال قد سبقني إلى قراءته.
يبقى أن أقول أن جلال خوري ليس متواضعاً!! إنه التواضع مجسداً!
شكراً لك يا مارك هالتر: بسببك تعرفت إلى إنسان رائع. رحمك الله يا جلال وأدخلك جنته.
* كاتب وطبيب لبناني