بعد أكثر من ثلاث سنوات على تصويره، وعام على فوزه بجائزة لجنة التحكيم الخاصة إثر عرضه الأوّل في العالم ضمن مسابقة «آفاق السينما العربية» في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» 2016، أبصر «حرائق» (2016، 118 د. ــــ المؤسسة العامّة للسينما) لمحمد عبد العزيز النور في دمشق.
السينمائي السوري (1974) تنفّس الصعداء أخيراً في «سينما سيتي»، مشاهداً سادس أفلامه الروائية الطويلة على الشاشة الكبيرة، غير بعيد عن معظم مواقع تصويره وسط العاصمة. قبل فترة وجيزة، كان العرض المحليّ حلماً بعيد المنال، جرّاء وجود «فيتو» شفهي على ذلك لاعتبارات عديدة. ما الذي تغيّر؟ حصول الشريط على ثاني تتويجاته (جائزة أفضل فيلم متكامل في «مهرجان روتردام للفيلم العربي» 2017)، ما سبّب حرجاً حول «اختفائه» أمام الرأي العام. كذلك، لعبت الانتقادات الكثيرة لـ «المؤسسة العامّة للسينما» في الآونة الأخيرة دوراً في سعيها إلى إغلاق ما يمكن من أبواب ريح وأسئلة شائكة.

يحيل دمشق حاضناً سيميائياً لأرواح تائهة، ومصائر معلّقة



على العموم، ما زال ملف الأفلام السوريّة الغائبة في دهاليز المؤسسة كبيراً، منها الميوزكال «ليلى» لمحمد عبد العزيز نفسه. ليس صدفةً أنّ الأخير لم يعمل في هذا المكان منذ إنهاء شريطه الأخير. يبدو أنّه الحلقة الجديدة من مسلسل مأساوي طويل. يتحدّث كثيرون عن الإدارة السابقة للمؤسسة العامة للسينما، التي عملت على إقصاء أبرز السينمائيين السوريّين بشكل ممنهج. اشتغلت على تغييب المشروع السينمائي لبلد كامل، من أجل اعتبارات ضيّقة ومؤلمة، وتحويل المؤسسة إلى ما يشبه مزرعة لـ «حكّام» محدّدين معروفين للجميع. هؤلاء يستحوذون على الطبق الرئيسي، فيما يترك الفتات لإسكات البقيّة. النتيجة أنّه تمّت مكافأة المدير العام على كلّ ذلك، بترقيته إلى وزير للثقافة. غير أنّ «حرائق» يسمو فوق كيتش البروباغندا والشعارات الملازم لمعظم نتاجات المؤسسة. يغلق القوس على بحث عبد العزيز في بنية الدراما متعددة السرد، أو الجانر المسمّى Multiperspectivity. مسارات متوازية ضمن زمن محدّد (يوم واحد)، في استكمال آخر لـ «نصف ملغ نيكوتين» (2007 – شركة الشرق للإنتاج الفنّي - أفضل فيلم متكامل، وأفضل ملابس، وأفضل ديكور من مهرجان باري السينمائي في إيطاليا 2009) و«الرابعة بتوقيت الفردوس» (2015 – المؤسسة العامة للسينما - جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وجائزة «فاتن حمامة» لأفضل ممثلة نوّار يوسف في «مهرجان الإسكندريّة السينمائي لدول البحر الأبيض المتوسط» 2015). هذه «ثلاثية السرد المتوازي». تقابلها «ثلاثية اليوم الواحد» المكوّنة من «المهاجران» (2014 – شركة الشرق للإنتاج الفنّي - أفضل فيلم روائي طويل من «مهرجان الكاميرا العربية» في روتردام 2015، درع التميّز العربي ضمن احتفالات مدينة قسنطينة عاصمة الثقافة العربيّة في الجزائر 2015) و«الرابعة بتوقيت الفردوس» و«حرائق». سريعاً، نلقى أنفسنا أمام ذرى مشتعلة في يوم من حياة كلّ من «خولة» (رنا ريشة)، و«وداد» (نانسي خوري)، و«رانيا» (جفرا يونس)، و«مروة» (أماني إبراهيم). الأولى تخرج من السجن. تجد أخاها «فواز» (سوار زركلي) متهيّئاً لنحرها بموس حاد، متوخياً الانتقام لشرف مهدور حسب اعتقاده. هو آتٍ للتوّ من مسلخ دجاج، إذ يتمّ الذبح الحلال مع صيحات التكبير. لقد علم بخبر الإفراج عن شقيقته من شرطيّ (عبد الرحمن قويدر)، في أول سهام الفيلم على فساد سلطويّ شريك في الجريمة. تبدأ مطاردة مجنونة في أكثر شوارع دمشق ازدحاماً. لن يجد «الذبّاح» فرقاً كبيراً بين مسلخ تحت الأرض، وآخر على أسفلت الشارع، أو في قلب مجمّع «يلبغا»، الذي يشيّد منذ عشرات السنين قرب جسر الثورة. ديناصور خرسانيّ شاهد على حقب كاملة من تاريخ بلد، ويوميّات مدينة، وإهمال حكومات، وتهالك شعارات. أثناء الركض باتجاه المكتبة الإسلاميّة، يتعطّش نصل الأخ لدماء أخته. لقطة بالغة الذكاء تقول الكثير عن نشر التطرّف خلف يافطات مدنيّة أنيقة، كما تحت رايات سوداء مع دوائر بيضاء في منتصفها.
الدجاج حاضر أيضاً في مدجنة تعمل فيها «وداد»، مع أمّها (مؤتمن عيسى) وأخواتها. تصعد السلالم، وتتسلّق مروحة رياح ضخمة، بحثاً عن إشارة للاتصال بحبيبها «صفوح» (مازن الجبّة). هي تتوسّل الخلاص من محاولة تزويجها قسراً من تاجر بيض (عبد السلام غبور). تختنق تحت حوض المغسلة، فيما يصل فريق من الأمم المتحدة للتفتيش عن السلاح الكيماوي. مفارقة تنتزع الضحك مع قدوم الحبيب، الذي يختطف أميرته على درّاجة صغيرة بدلاً من حصان أبيض. تنطلق خلفهما سيّارات الأمم المتحدة كموكب زفّة أنيق، تحت أنظار أمّ مقهورة مثل جذع شجرة مشلوحة في العراء. لن ننتظر طويلاً حتى تصدح صيحات التكبير من حنجرة «أبو البراء» (مؤيد روميّة)، قبل تجهيز «مروة» لتفجير انتحاري في المركز الثقافي الروسي. هدف طبيعي، مع انحداره من أصول قوقازيّة. هي تبدو خائفةً، متردّدةً، مدفوعةً بتاريخ شخصي مؤلم، أكثر من أيديولوجيا راسخة. في المقابل، تعمل «رانيا» المتطوّعة في الهلال الأحمر السوري على إنقاذ الأرواح، بمن فيها حمل يطالبها خطيبها التشكيلي العدمي (ينال منصور) بالتخلّص منه. أربع نساء تتقاطع أقدارهنّ في شارع 29 أيّار. يصارعن موروثاً مجتمعيّاً لا يرحم. يكابدن قوانين رسميّة متخلّفة. يعبرن حالات أخرى لا تقلّ تأزّماً. كل ذلك تحقنه الحرب بهرمونات العنف والتطرّف والفساد والتسيّب، ليصير كابوساً هائلاً مخيّماً على الجميع. هذه إحدى الالتماعات. إنّه ليس عملاً آخر عن الحرب السوريّة، بل عن المرأة التي اشتدّت مظلوميتها وسط أتونها.. عن رائحة اللهب داخل الأنثى وحولها، فوقها ومن تحتها، عن يمينها وعن شمالها. لا يبرّئ طرفاً ممّا يحصل. أصابع الكلّ ملطّخة بأهوال مريعة. «قصفوا، ذبحوا، عملوا...». هم يعني الجميع.
ليس الفيلم «النسوي» الأول في فيلموغرافيا محمد عبد العزيز. «ظلال النساء المنسيات» (2008 - الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية) شرارة أولى، تبعتها تلوينات مختلفة. اليهوديّة الباحثة عن حبّ حياتها في «دمشق مع حبّي» (2010 - شركة الشرق للإنتاج الفنّي - الجائزة الثانية من «لقاء نابل الدولي للسينما العربية» في تونس 2012). المتظاهرات ضدّ العنف في «الرابعة بتوقيت الفردوس»... كلهنّ يواجهن أزمات ذاتيّة متناسجة مع العام. في النهاية، يجدن قوّة القرار وتقرير المصير. يأخذن بزمام الأمور بشكل أو بآخر. المرأة في سينما عبد العزيز أقوى حتى ممّا تعرفه عن ذاتها.
في الفنيّ، يخلص مخرج مسلسل «ترجمان الأشواق» لعاداته في الاشتغال المتأني على المشهديّة والمنمنمات والكتل والأيقونات. يرتّب «سينوغرافيا الخراب»، لخلق كولاج صادم من كتل الركام، ومخلّفات الدمار، وتفاصيل الريف والمدينة. يحيل دمشق حاضناً سيميائياً لأرواح تائهة، ومصائر معلّقة، وأكسسوارات استثنائيّة. الفرق أنّها هذه المرّة مزيج بين المكان الأسطورة والعاصمة المتهالكة. يشتغل مجدداً على تقاطع شخوص الهامش مع يسارييّن ومثقفين، لصنع عجينة من لحم ودم وعظام ودموع وأزقة وسراديب ومسرح وألوان. «سينما القاع» أو «سينما الشارع» تكشف مرّةً تلو الأخرى أنّ العالم السفلي لدمشق أقرب مما يدرك البعض.
أطياف الإرث السينمائي السوريّ ماثلة بوضوح. دجاج عمر أميرلاي. حيوانات أسامة محمّد، وشخوصه المحشورة في كوادر خانقة. شيء من مناخات محمد ملص... تحيّة سينيفيليّة نبيلة، تشي باحترام وتقدير. تأخذ مسافةً من راهن السينما السوريّة المتخم بالبروباغندا والشعارات والانقسام والفساد، لتقيم جسراً ضرورياً معبّراً عن تتالي أجيال السينمائيين السوريين واتصالهم. لا بأس أيضاً من الالتفات إلى ألمودوفار، الذي انتصر بدوره للمرأة في سينماه. حساسية محمد عبد العزيز، وقدرته على خلق توليفة غنيّة كهذه، تبني على أساسات رافقته منذ البداية. صور هامشيّة في الطفولة. هويّة متعدّدة الأصول والثقافات. مشاهدات متنوّعة من واقعيّة إيطاليّة، وتأمّل إيرانيّ، وفرادة كرديّة، وأناقة أوروبيّة. سينما إيناريتو، مع كل ما يتفرّع عن ذلك ويرتبط به. الكاستنغ غير التقليدي، والممثلون غير المحترفين، توّجه ثابت عند عبد العزيز. يتطلّب جهداً مضاعفاً في الإعداد والإدارة. يفتح الباب أمام نتائج متباينة بطبيعة الحال. في ظهورها الأوّل، تقترح مؤتمن عيسى أداءً خلّاباً، بدور الأم الحريصة على إنقاذ ابنتها من المكان والفقر بأيّ ثمن. في المقابل، لم يكن سائق الرافعة بالنجاح نفسه في «الرابعة بتوقيت الفردوس». عارض الأفلام الكحولي تغيّر من وجه صامت بلا اسم في «نصف ملغ نيكوتين» (ظهور ساحر للراحل ياسين بقوش)، إلى «أبو صفوح» (محمد قزق) المرح صاحب الروح الحلوة في «حرائق». إدارة الممثّل مضبوطة عموماً، لا تنزلق حتى في المفاصل الأقل، مع توهّج خاص لنانسي خوري ومؤيد روميّة ورنا ريشة.
مأخذان على «حرائق». الأوّل يتعلّق بكونه نهاية مرحلة في سينما محمد عبد العزيز، مع هامش انتقالي إلى أخرى. من الواضح أنّ الرجل قال كلّ ما عنده في هذا النوع المعروف. ها هو يرتحل إلى مناطق جديدة، بحثاً عن سينما الخطاب الفردي، وأنواع اللا حبكة واللا حكاية، وتيّارات ما بعد الحداثة. مشروع «الطواسين» المستمر حتى عام 2026، بمعدّل نسخة كل عشر سنوات، دليل صارخ على ذلك. هذا خلّف بعض الآثار على «حرائق»، مثل ترك الشخصيّات تستغرق في أكثر من مفصل، ضمن استطالات مجّانيّة ومونولوغات مسرحية فائضة عن الحاجة. ثمّة خلل في الزمن كذلك، عند الانتقال بين خطّ وآخر، في القسم الأخير من الشريط. في هذا المستوى، يبقى «الرابعة بتوقيت الفردوس» أكثر إحكاماً. درامياً، يبدو خط متطوّعة الهلال الأحمر بكلّ تفرّعاته عبئاً على الفيلم، وأضعف من سواه. تبدأ الهنّات من تعاطي المسعفين مع «زينة» (ولاء عزّام)، البعيد عن أصول العمل الإغاثي (طريقة الحمل والإسعاف، عدم جواز اللمس والحديث...)، وصولاً إلى قلّة توافق الخط نفسه مع البنية ككل، وتفرّعه بما لا يخدم. العبء نفسه لمسناه في مسار المرأة الحامل وزوجها في «الرابعة بتوقيت الفردوس». نسخة أخرى من دون خطّ المتطوّعة، قد تقدّم خدمة جمّة لشريط جريء ومغاير في مسار السينما السوريّة.