حين التقيناهما، كان المعلّم فائق حميصي وعايدة صبرا يضعان اللمسات الأخيرة على خشبة مسرح «مترو المدينة» في الحمرا، استعداداً لانطلاق عرض الإيماء «مشوار 45» اليوم، الذي يشاركهما فيه الصحافي والفنان زكي محفوض. في بداية الشهر الماضي، قُدّم «مشوار 45» على مسرح «مسرح الرابطة الثقافية» في طرابلس (شمال لبنان) بدعوة من «المجلس الثقافي للبنان الشمالي»، حيث قوبل بردود فعل إيجابية فاقت التوقعات، لا سيّما من قبل الجيل الجديد الذي لم يسبق لجزء كبير منه مشاهدة هذا النوع من الأعمال.
اليوم، ستتكرّر التجربة في بيروت، على أن يطل الثلاثي على الجمهور مجدداً في 13 كانون الأوّل (ديسمبر) الحالي، مع احتمال أن تتواصل العروض في العاصمة. ببساطة، يعتبر العرض رحلة عبر الزمن، من خلال مشاهد مختارة من الأعمال الإيمائية الكاملة لحميصي التي بدأت قبل 45 عاماً، حين شارك الفنان المولود في طرابلس في عام 1946 في مسرحيّة «فدعوس يكتشف بيروت» التي كانت أوّل عمل إيمائي في لبنان حمل توقيع موريس معلوف.

يصح القول إنّ الإيماء جزء لا يتجزّأ من حياة فائق حميصي، فعلاقته بهذا الفن تعود إلى أيّام الطفولة حين لم يكن يجد طريقة للتواصل مع أولاد حي الحدادين إلا من خلاله، قبل أن يكرّس حياته له مقاوماً كل إغراءات اللعبة التجاريّة والمطبات الأهلية. بعد المشاهد التي كان يعرضها في بداية الستينيات أثناء التحاقه بالكشافة حيث كان ضمن فرقة «الجراح الفنيّة»، شارك في «فدعوس يكتشف بيروت»، ثم توالت مجموعة كبيرة من الأعمال، من بينها: «إيماء 79»، و«يعيش المهرّج» (1981)، و«إيماء 83»، و«إيماء 86»، و«إيماء 88»، و«إيماء 25» (1997)، و«كل هذا الإيماء» (2010)...
«لم أترك الإيماء أبداً، لكنّني انقطعت لفترة عن تقديم العروض المسرحية»، يخبرنا فائق حميصي، موضحاً أنّ «أقيم دورات تدريبية في مختلف أنحاء العالم العربي بالتعاون مع «الهيئة العربية للمسرح» التي يشارك حميصي في عضوية مجلس أمنائها». ولأنّها شارفت على نهايتها، قرّر استرجاع أعمال سابقة من ريبيرتواره، «تمهيداً للمرحلة التي أحضّر لها في مجال الإيماء والتي تتطلّب تطوّرنا نحن والجمهور». أستاذ التمثيل يبدو على قناعة تامة بأنّ الناس يحتاجون دائماً إلى «التعرّض إلى أصول الأمور قبل الحديث أو العصري. هذا أمر شائع جداً في كل دول العالم إلا في لبنان.. فنحن مجتمع استهلاكي يريد الجديد فقط».
يستشهد حميصي بمسرحيات شكسبير التي يُعاد تقديمها دائماً، وكذلك بالكلاسيكيات الغنائية والراقصة، ليشدّد على أنّ الإيماء يتمتع بصفات شبيهة بهذه المجالات، إذ أنّه من الفنون الصامتة كاللوحات مثلاً: «منذ عشرات السنوات، ينظر الناس إلى الـ «موناليزا» ويفسّرونها بطرق مختلفة على الرغم من أنّ أي تغيير لم يطرأ عليها. الإيماء مثلها، لأنّ قيمه الجمالية تعتمد على تشكيل في الفراغ. تشكيل مع موضوع معيّن يمكن تقديره في أي زمن كان.. ما يتبدّل هو الجمهور وحالته النفسية...».
بناءً على ذلك، وتمهيداً للمرحلة الجديدة التي يُحضّر لها، وبعدما طُلب منه عرض إيمائي في طرابلس، رغب بطل مسلسل «عريس العيلة الدايم» (1987) في إعادة تقديم مجموعة من المشاهد منذ بداية مسيرته الفنية. «هكذا، يتذكّر البعض ما شاهدوه على مرّ السنوات، ويتمكّن مَنْ لا يعرف أعمالي من اكتشافها والتعرّف على هذا المسرح وكيف انتقلنا من الإيماء الحكواتي (يُسمّى اليوم إيماء شارع) إلى إيماء التطوّر الحركي الذي أنهيت كل ما أريد قوله فيه. الآن أنتقل إلى نوع جديد، آمل أن أتمكّن من عرضه في عام 2018»، يقول. أفكار المشروع الجديد جاهزة، والأكيد أنّها لا تشبه ما تم تناوله في مسرح فائق حميصي، فهو لا يحبّ تكرار نفسه كما أنّ «التغيير ضروري لكي نشبه الطبيعة. على سبيل المثال، يمكن لأي إنسان أن يجلس على الشاطئ يومياً ويعيش في كلّ مرّة حالة جديدة ومختلفة... عناصر الطبيعة لا تختلف لكن إيقاعها يختلف. في طرابلس، جرّبنا قليلاً وكانت النتيجة مشجعة لأنّ تفاعل الناس من كل الأجيال كان كبيراً». بعد الإنسان والحرب والإنسان والموت وغيرهما من المواضيع، سيذهب فائق في عرض 2018 إلى «الإنسان والثقافة» ويقدّمه ببساطة، فيما سيُقرن الإيماء بعناصر صامتة أخرى: «يقولون إنّ الإيماء مسرح فارغ... الآن ستدخل عناصر صامتة أخرى على الخط، وسنرى كيف يمكن للكرسي أو الطنجرة أن تمارس الإيماء، وسيصير الشكل الجديد تابعاً للمسرح الحديث، أي الحركي.
عالمياً، لا يستمر إلا هذا النوع من العروض لأنّها تجذب الجمهور لأنّ الحياة صارت واسعة جداً والتكنولوجيا دخلت فيها بشكل أساسي. سيشاركني المشروع مجموعة من الأصدقاء الذين أعمل معهم دائماً، إضافة إلى عايدة صبرا وزكي محفوض... وربّما مواهب جديدة».
بالعودة إلى «مشوار 45»، يشرح فائق حميصي أنّه أخذ من كل عروضه السابقة مشاهد محدّدة، من دون أن يمزجها ببعضها البعض ضمن ثيمة واحدة، فالثيمة الأساسية هي الاستعادة.

سيذهب في عرض
2018 إلى «الإنسان والثقافة» ويقدّمه ببساطة، مقرناً الإيماء بعناصر صامتة أخرى
الانتقاء لم يتم على أساس مواضيع معيّنة، غير أنّ الترتيب جرى على أساس زمني يُظهر كيفية تطوّر طريقة العمل.
هذه التجربة وتلك المرتقبة تدفعان إلى الاستفسار عن إمكانية أن يعيش الإيماء في لبنان برأي رائده في هذا البلد. من دون تردّد، يقول وريث مارسيل مارسو العربي إنّ «المسألة محسومة، فهو موجود وداخل عضوياً في حياة الناس. الأداء الحركي والمسرح الجسدي كلّه تابع للإيماء (العائلة نفسها)، وكذلك المهرّج. في لبنان فرق تهريج عدّة، منها في المستشفيات (clown doctors)، وأخرى تشارك في الأنشطة الشعبية التي تحصل في البلد. دخل الـ mime في حيثيات الحياة الاجتماعية للناس». ويتابع موضحاً أنّ «العروض المسرحية تعدّ خياراً شخصياً للممثلين، لكنّني أعتقد أنّها الاستثناء لأنّ عروض الشارع هي الأساس»!

«مشوار 45»: اليوم و13 كانون الأوّل ــ الساعة التاسعة والنصف مساءً ــ «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 76/309363 أو 01/753021




رجعة عظيمة



كيف تصفين العودة إلى المسرح الإيمائي مع فائق حميصي؟ «عظيمة»، تجيب الممثلة والمخرجة اللبنانية عايدة صبرا. عندما يقوم المرء بعمل يحبّه «يبقى الحماس موجوداً والإحساس جميلاً، خصوصاً أنّ الريبيرتوار الذي نقدّمه اليوم يعود إلى بدايات فائق حميصي مع إدخال أشياء جديدة». هنا، تشير صاحبة شخصية «الست نجاح» إلى أنّه «حتى أنّنا اشتغلنا على المشاهد القديمة وأجرينا عليها بعض الإضافات»، مشددة على أنّه في «كل العروض مع الأستاذ فائق يكون التفاعل أكثر من ممتاز، لأنّ المواضيع المعالجة مأخوذة من الواقع وقريبة من الناس، إضافة إلى الفانتازيا طبعاً والتطوّر الحركي الذي يعمل عليه اليوم». توافق عايدة فائق الرأي لناحية أنّ الإيماء حاضر اليوم في لبنان: «سنوياً، يتخرّج طلاب (ولو قلّة) يجيدون الإيماء لكن مسألة التفرّغ لهذا النوع من التمثيل قرار يعود إليهم. غير أنّ كثيرين باتوا اليوم يستخدون الإيماء في حفلات وأنشطة على تماس مباشر مع الناس مثل الأعراس، وأعياد الميلاد، وافتتاح معارض». ترى بطلة مسرحية «فيترين» أنّ هذه التجارب التي صارت شائعة في لبنان «تقرّب الإيماء من الناس، وهو ما يتوافق مع هدفنا الأساسي، أي عدم حصر الـ mime بالمسارح». وعن أهمية الإيماء، تؤكد صبرا أنّه أساسي جداً للممثّل على صعيد «تقوية التعابير والإحساس والحركة، كما أنّه يساعد على التنويع في التعابير وضبط الحركات لكي تصبح «نظيفة». يحتاج الممثل إلى ضبط الإيقاع في كيفية الإحساس وقول الجمل والليونة». وفي هذا السياق، تلفت عايدة إلى أنّ رؤية فائق حميصي تتناغم مع ما سبق أن قاله داريو فو لجهة دفع الطلاب إلى الربط بين التمثيل والإيماء و«هذه مسألة غاية في الأهمية».