«بدأت الأزمةُ الآن». جزم الرجُل «المُطّلع» وهو مُحِقّ على الأغلب. لكنّ الجملة التالية التي تفوَّه بها في برنامج «نهاركن سعيد» على lbci قبل يومين تستحقّ أن تُخلَّد فعلاً. قال الرّجُل إنّ الأزمة هي «أزمة اللبنانيين مع أنفسهم لِمَا سيجلبون على أنفسهم من مشاكل بسبب غضب استراتيجي عند الآخرين في مقدّمهم السعودية».
بدت كلمات فارس خشّان أشبه بتصريح لأحد «جنرالات» الجيوش الكبرى وليس لرجُل قرّر أن ينتقل قبل سنة من مهنة الصحافة إلى «عالم الرواية» على حد قوله في تصريح سابق. ولكن مَهلاً. ما هو تعريف «الغضب الاستراتيجي» بلغة السياسة والعسكر؟ في المقابلة التي بدت خلالها المذيعة ديما صادق مأخوذة بـ «سِحر باريس» وبـ «سطوة» الضيف في الوقت ذاته، قدّم فارس خشان «مطالعة دفاعية» مطوّلة حول «مظلوميّة السعودية» أولاً مُركّزاً على فكرة رئيسية واحدة: للسعودية الحقّ في الدفاع عن نفسها في مواجهة ما أسماها «ديناميّة التتييس» التي يتّبعها حزب الله! يَبرَعُ خشّان دائماً في ابتكار مصطلحات جديدة، لكن فائض الحماسة و«الغضب» غالباً ما يأخذه إلى استنتاجات غير منطقيّة. فهو مثلاً في مقابلته الأخيرة، شبَّه وضع السعودية الآن بحالة إسرائيل غداة حرب تموز 2006. قال إن الأخيرة وإن لم تحقّق اهدافها في تلك الحرب، إلا انها حصلت على ما تريده من خلال فرض ترتيبات أمنية على الحدود. «السعودية ستحصل في النهاية على ما تريده». كرَّرها أكثر من مرّة. قال أيضاً: «حذار من اللعب في الحديقة الخلفية للسعودية»، «ما حدا يواخذ المملكة العربية السعودية بالإجراءات اللي بدها تاخدها»، «بعد ما صار شي بعدنا مبلشين» وغيرها.
مَن فوَّض الرجُل أن يكون ناطقاً باسم السياسة السعودية الخارجية لدرجة أنه بدا «ملكيّاً أكثر من الملك» والمملكة مَعاً؟ استفاض ضيف «نهاركن سعيد» في الحديث عن «أدوار المملكة الإيجابية جداً». قال بثقة كبيرة إنّ «الملفات المطلوبة من المملكة في المنطقة ومساهماتها الايجابية فيها أكبر بكثير من أن يُسمَح لبعض الأجنحة التابعة للحرس الثوري العابرة للوطنية في لبنان والعراق واليمن وسوريا وأفغانستان من أن تُعرقل كل ذلك»! برأيه، السعودية داعية سلام ومحبّة، والآخرون هم «الأشرار». لم تسأل ديما صادق عما أسماه الضيف أنه جناح للحرس الثوري في لبنان ولم تنبس ببنت شفة عن ماهية «الدورالايجابي» للسعودية على الأقل في اليمن. لا هذه ولا تلك ولا غيرها.

طغت على الإعلام اللبناني ذهنيّة عدم المسّ
بـ «المقدَّس السعودي»

تبخَّرت أسئلة المذيعة المشاكسة. لكنها مع ذلك، ألحّت السؤال على ضيفها عن «أدوات المواجهة» التي تمتلكها السعودية. مرّة أخرى، يضع خشان نفسه في مقام الناطق باسم «الإدارة السعودية»، ملوّحاً هذه المرّة بنموذج الحصار الخليجي ضد قطر. «ولكن نحنا ما رح نقدر نواجه أي ضغط اقتصادي ومالي على لبنان». غريب أمر الرّجُل. يبرّر خطوات الآخرين ويجزم باستحالة مواجهتها أيضاً. وهو بذلك يريد من اللبنانيين التسليم بلعبة الابتزاز التي تمارسها السعودية طالما أنها في موقع «المُعتدَى عليه»! يقول في السياق: «حذار من إغضاب المدى الاستراتيجي المالي والاقتصادي للبنان والمتمثل في الخليج». الغضب إذاً مرّة أخرى! لم يكتفِ خشّان بذلك، بل حذّر اللبنانيين من «النفرة المستجدّة» لدى الرأي العام السعودي من لبنان. «بدنا ننتبه. هيدي مملكة وعندها قواعد شعبية كمان. ما حدا يفكّر انو بس بلبنان في قواعد شعبية». أضاف بطريقة استعلائية: «إيّانا أن نحوّل الرأي العام هناك الى إرادة شعبية سعودية».
لم يكن منطق إيجاد الأعذار لسياسات الآخرين حكراً على الضيف وحده، فقامت «المضيفة» بتعزيز الفكرة من خلال إشارتها إلى «ريتويت» لمواطن سعودي يقول فيها: «أخي اللبناني المقيم في السعودية بحبك كتير بس أنا كمان بحاجة للشغل»، مُعَلّقةً: «هيدا المشهد بعمرنا ما شفناه لبنانياً سعودياً». يوافقها خشّان: «تماماً تماماً». لِعقودٍ طويلة، طغت على معظم الإعلام اللبناني (والعربي) ذهنيّة عدم المسّ بـ «المقدَّس السعودي» في لعبة تواطؤ داخل منظومة الإعلام والسياسة والاقتصاد المُسيطرة. حسب أدبيات المنظومة إياها، فإن كل الأنظمة العربية فاسدة وديكتاتورية. أما السعودية فهي «مملكة الخير» (من المفيد العودة إلى تحقيق الزميل محمد نزال في «الأخبار» بعنوان: هكذا ملأت السعودية أفواه الصحافيين ذهباً). حتى أنّ النائب وليد جنبلاط غرّد في بداية الأزمة الراهنة بلغة الاستعطاف للسعودية (عاد وحذف التغريدة لاحقاً) عندما قال «كم يشعر لبنان واللبنانيون بالوحدة واليتم في هذا الوقت كون المملكة السعودية غاضبة عليهم وعلى أبنها وابن لبنان البار سعد رفيق الحريري»! ولا يتّسع المقام ولا المقال للإشارة إلى مواقف سياسيين لبنانيين من مشارب عديدة حول «كرَم» السعودية في مراحل متفرّقة بلغت ذروتها في خطاب «عاشت السعودية» للرئيس السابق ميشال سليمان! الذهنية إياها تريد للُبنان أن يبقى دولة صغيرة وضعيفة تعيش على موائد وأموال الآخرين، وهي ذهنية تعبّر أيضاً عن نهج حاكم سائد ليس حكراً على فريق سياسي واحد. في مسرحيته الشهيرة «شي فاشل»، أشار زياد الرحباني ساخراً إلى مشهد «غضب الأهالي» الذي كلّف المُنتج المفترض عشرة آلاف ليرة لبنانية. ترى ما هي كلفة «الغضب الاستراتيجي» الذي أشار إليه خشّان في «نهاركن سعيد»؟