عبد الله مراد (1944)، أحد رواد الحركة التشكيلية السورية يحط رحاله في لبنان للمرة الخامسة، عبر غاليري Art on 56th. يحل على العاصمة اللبنانية بعدما حضرت لوحاته في أهم المزادات العالمية من «كريستيز» و«سوثبيز» وغيرهما. هنا عشرات اللوحات من مواد مختلفة بقياسات متنوعة، ترافقها تركيبات من خشب ملون معشّق بمواد مختلفة.
يحضر الأزرق بقوة، وتحاوره الرماديات، فيما يغيب الشكل الواضح على حساب حضور الكينونات العضوية على المساحة المسطحة. «الرسم بالنسبة لي يتبع الإيقاع. ارتفاع وتموج على سطح اللوحة، وإنتاج مساحات محقونة بالطاقة الخفية، والكهرباء الساكنة. إنها تلعب لعبة، مباراة مع المجهول، والبحث عن جوهر وراء الحواس. وهو عمل مليء بالألغاز، يتأثر بالجاذبية والتباين بين البقع والخطوط والأشكال. ديناميكية العمل تنتج من تأثير، من الاصطدامات بين العقل والمنطق، وبين العواطف الجياشة. وبوجه عام، لا أود أن تعكس اللوحة ما لا تستطيع تحمله من سرد وأفكار. وهكذا، فهي شيء موجود في اللحظة، ونتيجة لصراع عقيم مع المواد الخام والادوات». بهذه السطور يعبر عبد الله مراد عن كيفية تفسيره الخاص للعمل الفني. فهذا ما اتى حرفياً في بيانه الفني الذي وزعته الغاليري. ويضيف: «هو السخف الذي يحاكي عقم حياتنا ووجودنا. اللوحات في هذا المعرض، تدعم ثلاثة عناوين ومواضيع. الأول هو مجموعة من الأشكال الزرقاء، التي ترمز إلى البحر والسماء. الثانية تذكر الأرض المحترقة أو الغابة البرية. والثالثة هي الاكثر تجريداً، وتحتوي على ملصقات من كرتون المساعدات الإنسانية، وتجاوز للخبرات المتنوعة» دائماً بحسب بيانه الفني.
الفنان السوري العالمي الذي يعرض منذ مطلع السبعينيات حين تخرجه من معهد الفنون في جامعة دمشق، وهو العضو في نقابة الفنون الجميلة في سوريا وفي اتحاد الفنانين العرب، يعتبر أحد رواد الفن التجريدي العربي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أعماله تندرج ضمن مجموعات عامة وخاصة. قد يكون عبد الله مراد أقل الفنانين تصريحاً وأقلهم كلاماً للإعلام. هذا الصمت الذي يتحصن به، ينعكس أيضاً في خيار عدم وضع عناوين للوحات، ولكنه يختفي مع حضور لغة اللون. اللوحات لا شك أنّها تنطق عن خوالج الفنان. لا بل غالباً ما يسرّ لها، فتصرخ لنا عنه. فقد مراد ابنه فادي في الحرب السورية الأخيرة. لكنه لم يتخل عن لغة الرسم. بل ظلت هي الناطقة الرسمية باسم قلبه. والدليل أن لوحاته في المعرض الحالي، موقعة بغالبها في عام 2017. فماذا في هذا المعرض؟
في البيان الفني للمعرض الذي تضعه غاليري Art on 56th بين أيدي الزوار، محاولة لتلخيص المشهد: «معرض فردي لأعمال الفنان عبد الله مراد. يقدم مقاربة تجريبية للرسم. لوحات مراد هي احتفال بالاصطدام بين التجريدية والتصويرية، بين السردية وما لا يقال.

عشرات اللوحات ترافقها
تركيبات من خشب ملون
معشّق بمواد مختلفة

الأشكال العضوية غير المحددة والأسطح المكوّنة من مواد متراكمة، تضغط المساحة وتصب التركيز على الخط واللون». ويضيف بيان الغاليري: «لوحات عبد الله مراد تلعب بالملمس، باللون، بالتقنية والخط. يخلق الفنان أشكالاً عضوية، مختزلة إلى سماتها الأساسية، كالخلايا داخل كائن حي. المساحة المسطحة التي يُدخلها ويُمسك عبرها العناصر، تشحن اللوحات بالتوتر والثنائية واللغز. هناك موسيقى ما في عمل الفنان، إيقاع كامنٌ ينعش السطح الثابتَ بدفقه».
ولكن ربما سقطت سهواً في بيان الغاليري بعض الأخطاء التعريفية. بحسب البيان، فإنّ مراد يعتمد نمط الـ «امباستو» Impasto أي ضربات الريشة السميكة جداً وقد تكون ضربات مشحاف أيضاً. وتصدر عنها عجينة ظاهرة جداً ذات سماكة واضحة على قماشة اللوحة، ونتوءاتها مرئية بالعين المجردة. لكن هذا تحديداً ما لا يقاربه إطلاقاً عبدالله مراد. فلوحاته أحادية الملمس إذا ما استثنينا بعض الكولاج. وضربات ريشته ناعمة لا تظهر منها أي سماكة إلى السطح!
كما يشير البيان إلى أن أعمال مراد «تأخذ من الفولكلور المحلي ومن تقنيات الفن الحداثي التاريخي، فيَصل الشرق بالغرب. في الواقع، هو يعود إلى الوحشيين والتعبيريين التجريديين، والتكعيبيين وفناني الـ «آرتي بوفيرا» (الفن الفقير) ويدخل استيتيقا المنطقة من الأرابيسك».
هذا المقطع الصغير يحوي تيارات عديدة لا يمكن لفنان واحد أن يجمعها في معرض، إلا إذا كان معرضاً استعادياً يشغل كل تجاربه خلال حياته الفنية. وبالعودة إلى الأعمال المعروضة، فلا يمكن أن نرى فيها أي بعد وحشي. ألوان مراد تميل بغالبيتها إلى الرماديات إذا ما استثنينا حصراً أزرقه البحري. ولا دخل لهذه الأعمال إطلاقاً بالآرتي بوفيرا/ الفن الفقير (التيار الذي صعد في منتصف الستينيات وحتى السبعينيات في إيطاليا). أما الأرابيسك العربي، فهو غائب كلياً عن الأعمال المعروضة، لا بل لا يمكن لهذه اللوحات أن ينطبق عليها أيّ من مقاييس الأرابيسك. والقياس يسري أيضاً على «الفولكلور المحلي». تعبير مطاط قد اختلط على كاتبي البيان استخدامه ربما.
يبقى أنه قد نجد بعض جذور التكعيب في أعمال عبدالله مراد المعروضة هنا، أو إحساساً يقارب التجريدية التعبيرية، لا شك في ذلك.
وهنا لا بد من العودة إلى كلمة التشكيلية القديرة والناقدة الفنية لور غريّب في كتابتها عن معرض عبدالله مراد عام 2013: «يعرف الفنان (مراد) كيف ينقل مشاعره اللونية، لكنه لا يكمل مشواره، إذ ثمة حاجة في لوحته إلى دينامية ضرورية للغوص في العمق الشكلاني. أو ثمة حاجة إلى أن يشحن اللوحة بعصب خاص به. هناك شيء مفقود في الأعمال ذات الألوان الحالمة والمريحة التي لا تتجاوز الرضى البصري الى ما يجعلها حالة متحركة نتوقع منها أن تنفجر في اثارات نفسية مضافة الى الأفق المهني المتحكم بالشكلانية المتماهية نوعاً ما، أو القريبة جداً من المدرسة الباريسية، أي من التجريد الذي بلغ ذروته في النصف الثاني من القرن الفائت».

معرض عبد الله مراد: حتى 25 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ غاليري Art on 56th (الجميزة) ـــ للاستعلام: 01/570331