ضمن الاحتفال الاختتامي لتظاهرة «أسبوع النقاد» في «متروبوليس أمبير صوفيل»، يعرض للمرة الأولى في لبنان فيلم «موج ٩٨» (15 د ــ 2015) للمخرج إيلي داغر الحائز جائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير في «مهرجان كان السينمائي» الأخير. حصل المخرج اللبناني (1985) على شهادة في فن التحريك والرسم الكرتوني في لبنان ثم تابع دراسة الماجستير في الفن المعاصر في لندن.
يمزج داغر في أسلوبه السينمائي بين التحريك والرسم الذي أحبه في صغره وكان هو دافعه لدراسة التحريك كما يقول، ومنه اتجه إلى الإخراج. تلك الخلفية، تشكل إحدى عناصر خصوصية سرده السينمائي. أبرز ما يميز «موج ٩٨» لغته السينمائية التي تبدو دائماً قيد التشكيل والبناء. إنّها أشبه بلوحات بصرية يستكشف من خلالها المخرج مدينة بيروت ويعيد بناءها ضمن مخيلته السينمائية الخاصة. ما يصوره هو الإحساس بالمدينة وفكرتها أو مفهومها أكثر منها المدينة نفسها. بضواحيها المكتظة ووجهها المعماري الهجين، تبرز العاصمة اللبنانية في الشريط كمدينة معلقة على حافة هذا العالم. كلما حاول البطل القفز منها، غاص داخلها أكثر. المدينة حقيقية، لكن شخصياتها كرتونية كما يصوّر المخرج. بطله الأساسي مراهق يختنق داخل هذه المدينة التي لا مخرج من دورانها العبثي حول نفسها. رعبه الأكبر أن تبتلعه كما غيره أو أنها قد ابتلعته بالفعل، إذ يحاول جاهداً أن ينفصل عن جسد هذه المدينة أو هي تحاول الانفصال عنه بلا جدوى. للطرافة، يأتي الخلاص ـــ بحسب مخيلة المخرج المبتكرة ـــ على صورة كائن فضائي برتقالي عملاق يظهر فجأة في وسط المدينة. بتشكيله التكعيبي، يبدو هذا الكائن خارجاً من لوحة لبيكاسو. يدخل البطل المجسم الهائل مع رفاقه حيث يستكشفون عالماً آخر، بدائياً غير مسكون، أشبه بالجنة الضائعة.

رؤية متفردة إلى العاصمة تمزج بين التحريك والكولاج والأرشيف
يمضون أيامهم في التسكع والسباحة والاستلقاء ليلاً على شاطئ الكوكب الجديد. التواصل أيضاً ــ كما تصوره لغة المخرج ــ هو حسي، حيث لا حاجة للحوار بل إنّ التفاعل أو الإيقاع السينمائي هو الذي يخلق لغة التواصل... عالم أشبه بالسينما نفسها. من الملفت أيضاً أنّ فتاة واحدة ترافق البطل وبقية الشبان إلى سطح الكوكب الجديد، بما يرمز إلى حواء أو إلى الأم في تشكيل مساحة اللاوعي أو الحلم التي يأخذنا إليها المخرج. لكن العالم الجديد ليس خارج المدينة فعلياً، بل يبقى متلاصقاً معها. لا يغادر المجسم الفضائي المدينة. يظل العالمان متصلين عبر تلك القشرة الخارجية التي هي أيضاً سطح الحلم أو المسافة الملتبسة بين الوهم والحقيقة أو الوعي واللا وعي إلى أن يحدث الارتطام بين الاثنين ويهدد العالمين بالانهيار. يتضح أن محاولة البطل للفرار لا تقوده سوى إلى داخل نفسه أو فضائه الداخلي المتنازع بين الحلم أو الكابوس. في هذا الصدد، يقول داغر لنا إن الكائن الفضائي يرمز إلى الفقاعة التي يعيش كل منا داخلها في بيروت، منفصلاً عن الواقع الاجتماعي أو السياسي حيث كل فقاعة أو مجموعة لا ترى الأخرى. يحكي لنا عن اكتشافه بيروت في نهاية التسعينيات عندما كان مراهقاً بعد انتهاء الحرب، هو الذي تربى ونشأ في الزلقا في ضواحي بيروت. حين تعرف إلى العاصمة، كانت بالنسبة إليه كالعالم الجديد الذي اضطر لاحقاً للانسحاب منه كغيره إلى داخل فقاعته الخاصة. في كل مرة، كان يعود فيها إلى لبنان، كان يسأل نفسه ما إذا كان بإمكانه أن يعود مجدداً إلى تلك الفقاعة.
بطابعها المتحول لكن المتناغم، تشبه لغة الشريط السينمائية لغة الحلم برموزه وعوالمه الهجينة القادرة على جمعها بخاصة في المشاهد داخل المجسم الفضائي. يمزج المخرج بين التحريك والرسم والكولاج والأرشيف، مصوّراً بيروت وحياتها ليجمع بين الخيالي والوثائقي في رؤية متفردة ينبع تماسكها من إيقاع السرد الانسيابي. يفرض هويته ورؤيته الخاصة إلى المدينة كما اللغة السينمائية ضمن أسلوب يمزج بين الشاعرية والسوريالية الطريفة في مقاطع أخرى. مثلاً، نرى مجسم الفيل العملاق الملون معلّقاً في السماء فوق بحر بيروت، كرمز ساخر للحلم المعلق الذي يختتم به الشريط. يقول داغر لنا إنّه لم يكن يهمه تماسك السرد الروائي بالمفهوم الكلاسيكي بل المعنى الذي من شأنه خلق هذا التماسك. لكل فصل من الفيلم إيقاعه، وهو انطباعي أكثر منه روائي. استغرق داغر أكثر من سنتين في صنع شريطه الذي بدأ العمل عليه عام ٢٠١٢، وحصل على أول دعم مالي من صندوق «آفاق». أكثر ما فاجأه في فوزه في «كان» هو «قدرة الفيلم على التواصل مع هذا الجمهور الغريب عنه الذي تماهى معه والإجماع الذي حظي به من لجنة التحكيم». لكن الأهم بالنسبة إليه هو الدعم الذي سيؤمنه هذا الفوز لإنتاج أفلامه المقبلة منهما عملان بدأ بالعمل عليهما قبل «موج ٩٨».

«موج ٩٨»: 21:00 مساء اليوم ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/204080