كلما جازفت بالإعتقاد بأن «الحالة» اللبنانية قد بلغت القعر أو تكاد، يقفز أمامك شريط الخبر العاجل الأحمر معلناً عن تجويف مستجد تؤدي دهاليزه إلى قعر يقع في كون مواز. آن للبناني أن يتعب ويسأل، أين هو قعر القعر؟ السؤال ليس رياضة ذهنية بل حاجة ملحة لمن يريد أن تطأ قدماه سطحاً صلباً، حتى لو كان هذا السطح قعراً، ليقف أو ليحاول الوقوف.
لو قُيّد لخصوم الرئيس الحريري أن يتأنوا في رسم سيناريو إهانة مخلة بالآداب البروتوكولية لما تفتقت أذهانهم بشيء يشبه ما كابده الرجل نهار السبت الطويل، هذا مع كفّ أذى الخيال الذي يكاد لا يقاوم إقتحام ليلة السبت المرعبة في الرياض. سوف يُقال الكثير عما حصل هناك، ولكن ماذا عما حصل في بيروت على توقيت الرياض؟
في فقه الإستزلام، يقوم الإعلام المأجور بعمليات كر وفر في تناول الحدث السياسي. إذا إفترضنا أن هناك عقد إيجار ذمم، فإن بنوده سوف تنص حكما على تشغيل آلية الفرّ الذاتية البارحة، إنه دون شك زمن الدفاع وإستيعاب الموقف الجلل، ولا مانع من اللوذ بالصمت حتى يخرج السيد أجير بفكرة مبتكرة لأن الحدث ليس وارداً في كُتيّب التعليمات بسبب إستثنائيته غير المعهودة. لكن قدرة الكثيرين على الخروج أمام الكاميرات لإقناع الرأي العام بحكمة الخطوة الحريرية تثير الدهشة. كيف يمكن التصدي لمحاولة الإنقلاب على المنطق البسيط غير المركب؟ كيف يمكن مساعدة معادلات رياضية بمستوى تلميذ في العاشرة على المحافظة على قداسة الإجماع عليها؟ ما حصل يهدد مرجعية البداهة المطلقة في المجتمعات. ولكي يتضح الموقف قليلاً ربما من الأجدى ترحيل مصاب المنطق من الإستديوات التلفزيونية إلى اليوميات اللبنانية في الشارع والمقهى ومحطات الوقود وغيرها. من دون البداهة سوف تسير السيارات غدا في بيروت عندما تضيء الإشارة الحمراء وسوف تتوقف عندما تومض بالأخضر وكأن هذا لا يحدث كل يوم في بيروت! ومن دون البداهة سوف يناولك بائع الخضار فنجان قهوة عندما تطلب منه أن يضع الحليب في خزان وقود دراجتك الهوائية، هذا هو المعنى الحرفي لضرب البداهة في المجتمع وهذا بالضبط ما جرى ليلة السبت على شاشات التلفزة من المؤسسة اللبنانية للإرسال إلى تلفزيون المرّ وغيرهما. كيف أمكن تحويل السيناريو التالي إلى بطولة: رئيس حكومة إئتلافية لبنانية، يتابع نشاطه بشكل إعتيادي، يحضر ملفاته لجلسة حكومته المقبلة، يلتقي موفدا إيرانيا عصرا، يتحضر للسفر إلى مصر من أجل لقاء طلابي، … ثقب زمني مفاجئ: يظهر فجأة بملامح وجه غريبة تاليا بيان إستقالته من السعودية على محطة سعودية بسبب تدخل إيران السافر في الشؤون اللبنانية. هذا سيناريو يصلح لكابوس مكتمل الأوصاف والرعب بعد تناول وجبة خروف محشي دسمة على مائدة العشاء. مدهشة هي القدرة على إستهلاك الهراء وإصطحاب المتناقضات والمشي بها مجموعةً لمسافات ليست بقليلة. ما حصل يصلح لأن يكون موضع دراسة نفسانية (case study seminar)، هو واقع إعلامي يعرض على السادة عبيدا يتمتعون بمواصفات قياسية ربما غير مدرجة حتى الآن في لوائح مسؤولي مختبرات التصميم الجيني للكائنات الحية.
في مكان آخر، يسود الهدوء على من ما تزال العاصفة الآفلة تحت مرمى بصره وما يزال عويلها يسكن مسامعه. هو يعلم جيدا أنه إنتصر أو ينتصر في أقل الأحوال، يتحضر للإستحقاق القادم، يراكم إنتصاراته، ويكوّمها على جثث مشاريع خصومه.