كلّما عاد روجيه عسّاف إلى المسرح، مخرجاً أو ممثّلاً، أو الاثنين معاً، كانت العودة حدثاً بحدّ ذاتها، ومناسبة للاحتفال. نحتفل، حتّى قبل أن نشاهد العمل، والمعروف أنّ الأعمال الفنيّة التي تُنتَج اليوم في مدينة كبيروت، بإمكانيّات المدينة ومع ناسها، عرضة لكل المخاطر والأنواء والرياح. الفكرة هي أن تخيّم على مسرحنا قامة هذا «القديس»، أو «الوليّ الصالح»، مؤسس «مسرح الحكواتي»، وقد ازداد جلالاً وتعباً مع السنوات.
الفكرة أن صنّاع العصر الذهبي لبيروت، لم يغيبوا كلّهم، أو يصمتوا، أو يستسلموا، أو ينقلبوا على تاريخنا وذاكرتنا. نذهب الليلة إلى «الطيّونة» ونحن نقول لأنفسنا إن الدنيا بألف خير، رغم كلّ شيء. إن الأشياء ما زالت ممكنة في هذا الزمن العقيم، المشلّع. إن القيم التي كافح لارسائها روجيه منذ عقود عدّة، مع حفنة من النساء والرجال، ما زالت راهنة، ويمكن أن نتشاركها مع أهل الحاضرة… وإن المشروع الذي منحه عمره هذا المثقف العضوي الآتي من الفرنكوفونيّة ـــ تركة الاستعمار ـــ إلى قلب العروبة والاسلام، ومعارك التحرر، والإنتماء إلى الناس وذاكرتهم الجمعيّة، هذا المشروع ما زال قابلاً للاستمرار والتجدد والانتقال إلى الأجيال الجديدة.
هذا هو الرهان الأساس لدى روجيه عسّاف، ولعلّه يختصر كل مسيرته المسرحيّة. في اعتقادنا أن الجماليّات، والتقنيات، والأساليب والمدراس، والمشاغل الثقافيّة والادائيّة والدراميّة، تأتي بعد ذلك. المسرح هنا مدرسة المواطنة، ومختبر لمستقبل نهضوي، وبلد على مقاس أهله. المسرح العسّافي مكان «لقاء» الممثلين والممثلات، القادمين من كل الجهات والشرائح، ليتبادلوا الأحلام والأوجاع والمشاغل، ليحفروا معاً في اللاوعي أو في الحاضر وأسئلته، ويفكروا وينفعلوا ويبدعوا، ليستعيدوا ذواتهم الحقيقية المغيّبة في مدينة السماسرة والقتلة والخراب العظيم. كل السر في طريقة عمل روجيه مع ممثليه وممثلاته. في ما يقترحه عليهم ويطلبه منهم. الفن هنا لم يعد سلعة واستعراضاً، ولا تجربة ابداعيّة «مجّانيّة»، ولا خطاباً أسلوبياً وتسويقياً ستتنافس عليه مهرجانات الرجل الأبيض… الفن مشروع ولادة جديدة. والمسرح العسّافي أيضاً، هو أرضيّة التماس والتفاعل بين صنّاع العمل وجمهوره: هؤلاء الرجال والنساء الآتون للبحث عن ذواتهم، واستعادة صوتهم المصادَر، وهويّاتهم المهدورة. من تلك العلاقة تولد روح المسرحيّة!
كل هذا سنجده الليلة في «طروادة»، تجربة روجيه عسّاف الجديدة، مع باقة من الممثلين والممثلات الشباب. غرف المعلّم من معين المسرح الاغريقي، هو المنكب منذ سنوات على اعادة قراءة تاريخ المسرح العالمي، على طريقته كفنّان القطيعة مع الأنماط المهيمنة، ومن زاويته التحليليّة النقديّة (صدرت أجزاء من موسوعته بالعربيّة عن «دار الآداب»، والجزء الأوّل بالفرنسيّة عن L’Orient des livres). ليطلع بنص لبناني في الصميم، وعربي بامتياز. فلنذهب مع حصار طروادة «حتى نهايات العواصم» كما كتب محمود درويش في «أحمد الزعتر». المسرح مع روجيه، مدرسة المواطنة والحريّة.