عشرات اللوحات من ورق تاريخي نادر ومن قماش بتوقيع التشكيلية فاديا حداد (1959) في «غاليري أجيال»، تضعنا «وجهاً لوجه» (عنوان المعرض) أمام كلّ التناقضات والمتكاملات الكونية والتشكيلية. امتلاء وفراغ، صمت وصخب، حرب وسلم، لون وخط، عاشق ومشعوق، راءٍ ولوحة.
تضجّ كل الطاقات الكامنة في تيار الشد والجذب الكوني، انطلاقاً من الجسد إلى الحركة - الفعل، فتبدأ قصة الثلاثين عاماً ونيّف من تجربة فاديا حداد التشكيلية، فعلَها الجذري: كما على اللوحة كذلك في النفوس، وينطق الخط الرفيع الغرافيكي، إذ يمسّه حضور اللون الأحد:
«عندما يسألك عن المسيح كيف أحيا الميّت،
اطبع في حضرته قبلةً على شفتينا: «هكذا!»
(مولانا جلال الدين الرومي: الديوان الكبير)

شدٌّ وجذب

القُبلة، هذه المعجزة... الطاقة المغناطيسية التي توحد قوتين متعارضتين متكاملتين. تنبع من أعمق أعماق البنية الجسدية للفرد عبر انفعال عاطفي مغموس متحد بالطاقة البدنية. وكذا لوحات فاديا حداد. قبلات من قاع الروح، معجزات صغيرة على ورق أو قماش لن يفقهها إلا من لثَم، فتذوّق، ثم ذاب في اللون واتحد. «هي فنانة الفنانين» يقول صالح بركات لـ «الأخبار». «وحدهم الفنانون يمكنهم فعلاً أن يقدّروا عملها أكثر من غير المتخصصين. هم وحدهم يدركون كم هو صعب هذا الإنتاج». تشرح فاديا هنا: «أحاول أن أصل إلى الجوهر بأقل وسائل/ وسائط ممكنة. لذا يجب أن تكون مكثفة للغاية، ما يجعل الوصول إلى اللغة هذه أصعب. لزمني الكثير من التمرين! وسنوات طوال من العمل المكثف الدؤوب للتعبير بأقل ما يمكن، والأهم أن يكون هذا القليل، كامل الحضور!» قليل، مكثف، كامل الحضور.. كقُبلة؟ أو أبعد...
«الكثير من الفنانين الرجال خاضوا معترك الـ action painting» يقول لنا بركات: «لكن كامرأة، ربما تكون فاديا فعلاً المرأة الوحيدة في منطقتنا العربية التي كرست نفسها لهذا النمط من الفنون كلية الانغماس الجسدي! هي فنانة لا يمكن أن تُفهَمَ بشكل سطحي إطلاقاً. فالموضوع بالتفاصيل، بالحركة، وأصحاب الاختصاص يعرفون صعوبة ذلك ودقته. هي غارقة جسدياً في عملها، منذ ساعات الصباح الأولى وحتى المساء ترسم. رأيتها كيف تعمل، يمكنها أن تعلق نفسها في حبل من السقف كي تنزل وتضع خطاً واحداً بضربة واحدة! ضربة في مكانها. لا تكرار فيها ولا يمكن أن تكون اثنتين، هناك طاقة هائلة في العمل. لا ترقيع». هي فعل واحد؟ لا يرقع ولا يُعاد؟ دائماً كأنه الأول، المبتدأ؟ كقبلة؟ تحمل في رحمها مخزوناً عاطفياً معتّقاً. ألا يتفق فعل الفن هذا مع فعل الحب؟

فنون ما بعد الحرب: بين فعل الفن وفعل الحب

«على الأرض، أشعر براحة أكبر. أشعر بالقرب! أشعر أنني جزء من اللوحة! فبهذه الطريقة يمكنني أن أمشي حولها، أن ألوّن من الجهات الأربع! حرفيا: أن أكون منغمساً باللوحة!»
(جاكسون بولّوك)
إذا كان البعد الإيمائي والحركي والطاقة تشكل بنياناً أساسياً في أعمال فاديا حداد، إلا أنها تضيف إليه بُعداً يمسّها: «لأنني ألوّن على الأرض، أياً يكن حجم العمل، فإن جسدي بكامله يشارك في صياغته، وليست فقط يداي. فهذه الطاقة التي ترافق الحركة بمنتهى الأهمية! وللدقة: الموضوع ليس جسدياً مادياً فقط! ولكنه أيضاً روحي (ليس بالمعنى الديني). بل هو النفس/ نفخ الروح/ النسمة/ العصف الداخلي/ الذي أهديه (بصرياً) في المادة. حيث كل شيء يجب أن يكون مسكوناً، مأهولاً!» مسكونٌ باللون الواحد. بالأحمر بالزهري، بالأزرق بالأخضر. «أحتاج أن أعبّر عن طاقات وإمكانيات وقدرات كل لون على حدة. ما يتيح لي أن أصل إلى رمزية أو شاعرية ما، مع كل لون. ولكلٍّ تعبيره الرمزي الذي لا يمكن أن يتماشى مع كل الألوان».
لكن، هل يمكن أن نصنف عمل حداد في إطار الـ Action Painting فقط رغم التصاقها الوطيد به؟ إذا تمعّنا بنتاج الفعل الفني العاطفي عندها، نرى أنّه ملتصق بالتعبيرية التجريدية الأُم. ويذكرنا لوهلة بتلك الطاقة المنبعثة من أعمال فرانز كلاين وكيفية اختياره سطوح الأعمال، وضربات الريشة الأحادية، كما أحادية اللون. وهو للمفارقة كان يصنف أيضاً من فناني الـaction. كما تحيلنا أعمال فاديا ذات المخزون الطاقاتي الهائل إلى بعض نتاج «مجموعة غوتاي» اليابانية التي اندرجت في إطار فنون ما بعد الحرب اليابانية، حيث كان الانغماس الجسدي جوهرياً لديهم، والفعل ابن اللحظة. ووجه الشبه مع المجموعة هذه يكمن بشكل خاص مع «دائرة» جيرو يوشيهارا (عام 1971) التي تستدعي إلى الأذهان كل تاريخ الكاليغرافيا في الشرق الأقصى وضرباته الأحادية المغموسة بالمهارة.
هنا يستذكر صالح بركات: «عندما تعرّفت إلى فاديا، كنت أول ما أنظر إليه كمتخصص هو ضربة الريشة. لا الإمضاء! في النهاية، الفنان هو بصمة. وهنا صراعنا مع الفن المفهومي. داخل الفن جزء من الحياة، وهذا الجزء ينتقل تعبيراً من قلب الفنان، من دواخله، إلى الخارج عن طريق يده، أو جسده (كحالة فاديا). فينتقل النبض إلى العمل الفنيّ. حيث يختزن وينطلق إلينا في دورة طاقة جديدة! فإما أن تشعري أو لا! وعندما رأيت عمل فاديا ذُهلت! للأسف الناس في يومنا هذا، يرون بآذانهم، لم يعد هناك من يرى بقلبه وعينيه!» ففعل الفن هذا كفعل الحب مغموسٌ بطاقاتٍ أبعد من الأطر المادية الصرفة.

لعبة التكامل

«كما أنّ الماء الصافي ينبعث من أكثر العيون عمقاً،
وأعلى الشجر أثبته جذوراً،
كذلك تنبعث أوراق مظاهر التفكير الإنساني
وتستمد قوتها واستقرارها من أعماق أغوار النفس!»
(مولانا ديوان شمس تبريز)
إضافة إلى الحركة والطاقة والانغماس الجسدي وفعل اللحظة العاصف بالعاطفة، هناك ما تضيفه فاديا رسماً بالقلم داخل اللوحة. وكل ما تقدم تمهيدٌ لحضوره: هو قناع ترسمه منذ أكثر من 17 عاماً، ينفجر مؤخراً ليصبح خطاً غرافيكياً أشبه بصولفاج الأوريغامي، ننفخ فيه حلماً ليطير أو يتأنسن. والقناع هذا لا يحضر بصيغة المفرد، بل يحتم وجوده حضور الكتل اللونية، فيشكلان ثنائياً يضاف إلى المتكاملات المتناقضات. وكل حضور في بحر اللوحة له جذور وأسباب، له تقنية خاصة وفلسفة نابعة من أعماق أغوار النفس، تبوح بها حدّاد لـ «الأخبار»: «أعمل على طاقتين متناقضتين متقابلتين، طاقة التلوين (عالم رمزي لتلقّي القناع) وطاقة الرسم (الشكل الغرافيكي/ القناع) اللتين تشكلان تضاداً، وهما متعارضتان متقابلتان، لكنني أبحث على توحيدهما على مساحة اللوحة أو الورقة، لأنني ببساطة أعتقد أن العالم (فلسفياً) أوالنظام الكوني (كوسموس) بذاته مكون من قوتين أو طاقتين متقابلتين متناقضتين متكاملتين تتحدان، مثل النهار والليل، الصمت والصوت، الشفافية والقتامة/ الكمادة.. وهكذا. إذا في قاعدة عملي، هناك هذه الثنائيات المتناقضة، وبشكل أساسي فيها الفراغ والامتلاء، فأنا لا أعمل على شبيع كامل المساحة إطلاقاً. اذاً الرسم/الغرافيسم والمادة الملونة بذاتها يتكاملان ويتحدان! والقناع على علاقة كاملة عبر الأشكال مع العالم الذي أبنيه له. أحاول أن أناغم الطاقتين أو أن أصل إلى تناغم أو تآلف. وهو بالفعل بحث لتوحيدهما! ثم إنه يتوافق مع هذا الخيط/ الخط الرفيع الذي بالكاد نراه لكنه كامل الحضور! وهذا يمثل رهافة هذا العالم أو حتى هذا الكائن/الفرد رغم قوته». ثم تدخل في الجزء الأهم، طقوس رؤية العمل: «عندما يُرى العمل عن بعد، بالنسبة لتأليفه والرسم، يدعوك للاقتراب، وهذه اللحظة الأكثر حميمية! فالرسم هنا لا يمكن أن نراه عن مسافة ولو قصيرة. نحن نحتاج للاقتراب! هي تلك اللحظة التي يتم فيها الدنوُّ أكثر فأكثر. ثم حركة ذهاب وإياب للاكتشاف المعمّق». كقبلة؟ هكذا ينغمس الرائي في لعبة الشد والجذب الكونية من جديد، بل في لعبة الحب، في دورة الطاقات. فهل تقف اللعبة هنا؟ لا، فجسد اللوحة سرٌّ يدعو للاكتشاف.

بحث عن الرموز

«التشكيل، أثر حقيقةٍ، شاعرية موازية للعالم.
بحث مقلقٌ عن الرموز الأساسية، التي تشكل في آن: حقيقتها وحقيقة الكون»
(فاديا حداد)
«أتعلمين أن هذا الورق من القرن الـ19؟» يسألنا صالح بركات مذوّقاً ثم يشرح: «فاديا تذهب لشراء دفتر موسيقى أو ما شابه من القرن الـ 19 ثم تقلب الورقة لترسم. هذه مثلاً قد يكون عليها طباعة حجرية من الجهة المقابلة! لكنها تأخذها باعتبار أن الورقة لها روح».
«لا أستطيع إطلاقاً أن أرسم على ورق جديد!» تعترف حداد: «أحتاج إلى ورق يعود للقرن الـ19. ورق قديم أبحث عنه بصعوبة، فهو نادر! وبشكل خاص عندما يتخطى قياسه قياس كتاب قديم. ومن هنا يظهر لدي في بعض الأعمال تركيب ورقتين. هو ورق مكلف للغاية. ربما تسألينني لماذا القديم بالذات؟ ببساطة، لأن لديه روح! لديه تاريخ، حياة! أنا أحتاج لأثر من الماضي، لحضور.. لمادة فيها روح! مثل هذه الورقة التي تحمل بذاتها وفي نفس مادتها مرور الوقت. أنا أحتاج لهذا التاريخ، لهذه القصة لأخط قصتي الخاصة! لأجلب الماضي والحاضر إلى شكل من الخلود».

«وجهاً لوجه»: حتى يوم غد ـــ «غاليري أجيال» ــ للاستعلام: 01/345213