لا فروقات بين دراما رمضان، وبضائع سوق «باب سريجة» وسط دمشق. كلاهما يتنافسان على استقطاب الزبائن. نداءات الباعة لدى الطرفين متشابهة، رغم اختلاف «اللوكيشن». في سوق باب سريجة، يتسلل الباعة إلى رصيف شارع خالد بن الوليد لالتقاط الزبائن قبل دخولهم السوق بإغراء الأسعار المتهاودة، لكنّ فحصاً عابراً لنوع البضاعة، يُكشف مستواها، ما يستدعي تجاوز هؤلاء والدخول إلى عمق السوق.
ترتيب البضاعة وفتنة سينوغرافيا الفاكهة، ليسا دليلاً على جودة المعروضات، إذ لا يمنع أن تضع «لوغو» مزوّراً على بضاعة من مصدرٍ آخر، أو أن تلمّعها كي لا يكتشف الزبون أنها فاسدة، وأن ما يُفترض أنه سمك وصل للتو من بحر طرطوس، هو في الواقع أسماك مثلّجة مستوردة من الفيليبين. كما أنك تحتاج إلى خبرة في فحص الدجاج: هل هو محقون بمادة هرمونية لتسمينه أم أنه طبيعي؟ أمثلة كثيرة تمكن مقارنتها بالبضاعة المعروضة على شاشات الدراما لهذا الموسم ومدى التطابق بين السوقين في مفرداتهما وعناصر الجذب، والغشّ في المادة المستهلكة. سيليكون الدجاج المنفوخ نجده في شوارع الدراما، من «باب الحارة» إلى «صرخة روح» وما بينهما. هكذا بدا فم إحدى الممثلات وهي ممدّدة في سرير المستشفى من دون مكياج، لفرط انتفاخه، كأنه مغارة مهجورة، وكان علينا أن نقتنع أن مارلون براندو أو آل باتشينو في نسختهما السورية المزوّرة، قد شاهدناهما قبل قليل في محطة بنزين على مفرق شارع بغداد. وكذلك ما يُفترض أنه صورة عن الكارثة السورية وحرائقها المشتعلة، ما هو إلا لعبة بلاستيكية للتسلية، إذ لم تغامر هذه الأعمال في تقشير طبقة العنف. حتى إن ما يمكن أن نسميه «دراما الحاجز» ظهر كمادة للضحك أكثر منها فكرة تراجيدية لمعنى الخوف، أو استدعاء «بورنوغرافيا الحرب» وفقاً لتوصيف جان بورديار لعنف النظام العالمي الجديد، أو الفرجة على المجموعة الفوتوغرافية التي أنجزها بالاسم نفسه الألماني كريستوف بانغرت، من دون فلترة، في فضح العنف البشري ومآسي الحروب، ولحظات احتضار الإنسانية.

يستدعي «حرائر» لباسل الخطيب مواقف تنويرية لنساء دمشقيات
لكن الدراما تعمل في منطقة أخرى، فما يعنيها رضا الشركات الإعلانية في سباق محموم على جذب المشاهد بالتناوب بين السلعة التخييلية، والسلعة الاستهلاكية. من الباب نفسه، تنخرط «الجزيرة» في صناعة دراما «أكثر جذباً» عبر مقابلات مثيرة لمذيعها أحمد منصور، متجاوزةً أعراف المهنة. المهم هنا، بيع البضاعة، واكتساب بعض زبائن الدراما، تحت شعار «لسنا الأقدم، لكننا الأفضل». هكذا تاه المشاهد أمام إنشاء بصري مسطّح، بقصد «تفريغ الكائن» من آدميته نحو فضاء عولمي مفتوح على السفاهة الدرامية. ونظراً لقوة الموجة المضادة، بدت بعض الأعمال تغرّد خارج السرب، مثل «حرائر» للمخرج باسل الخطيب، وكتابة عنود الخالد. النص يستدعي مواقف تنويرية لنساء دمشقيات عشن آخر حقبة الرجل العثماني المريض، في مزج متين بين الوثيقة والتخييل الروائي، لكن قوة الموجة المضادة التي أسس لها عمل شعبوي مثل «باب الحارة»، قادت إلى انتصار حاسم لصواني الكبّة، وحكمة الحلّاق، وعنترية قطّاع الطرق، على نازك العابد وصالونها الأدبي، وافتتاحيات ماري عجمي في مجلتها الرائدة «العروس»، وعلى آثام جمال باشا السفّاح بحق طليعة التنويريين العرب. ويبدو أن المعركة طويلة بين إعادة إنتاج التخلّف، وتسليع الجسد من جهة، والأفكار التنويرية من جهةٍ ثانية. هنا لن ننسى دراما أخرى حاولت لفت الانتباه إلى بضاعتها، في ذروة انخراط المشاهد بمنتجات الصورة. نقصد مشهد إعدام جنود سوريين في ساحة مسرح تدمر الأثري على يد تكفيريين. بدا كأن هؤلاء هاربون من أدوار «الكفّار» في الأفلام التاريخية، بعد بروفات مكررة لمشاهد مشابهة لا تقل ضراوة في التعبير عن جوهر الإرهاب، بقصد تأكيد «المخيلة الإرهابية التي تسكننا جميعاً»، وتالياً نسف أي سردية أخرى تتعلق بالمخزون التاريخي للمكان.