في تلك الأيام حين كان اﻹيمان يعبُقُ في مدينة بيروت ويجرف معه الفنانين الموهوبين الأصيلين ذوي المعتقدات الوطنية الراسخة... تعرفت اليه. كان تلميذاً في الجامعة اللبنانية.نادرٌ ما نلتقي فنان منغمساً في قضايا شعبه وناسه ووطنه، فيأتي فنه تعبيراً طوعياً عن التزام عميق بهذا المسار الصعب، كما كان جان شمعون.

لا يهادن ولا يستسلم ولا يمل، بعكس بعض الممالقين الذين يعايشون الواقع المهين ويستسيغون مغرياته. وفي ذلك الوقت كان قد خطر لي أن نؤلف مسرحية عن وضع المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني سنة 1968، وكان المقاومون الفلسطينيون قد جاؤوا بعدتهم وعتادهم وايمانهم وثورتهم، وتمركزوا في القرى الجنوبية.
وكنت قد قرأت سطرين اثنين لا غير عن وجودهم السري في لبنان، فما كان إلا أن خطرت لي مسرحيتنا القادمة ضمن محترف بيروت للمسرح، فقلت لروجيه عساف: ما رأيك بهذه الفكرة، فتلقفها روجيه بحسه المسرحي العالي. فكرة عظيمة قال وبوقتها؟
وبدأنا العمل.
خلال تلك الأيام المباركة، جاء الى المسرح ثلاثة طلاب نقولا دانييل، الصديق العزيز والنجم الدائم ورحمه الله نزيه قطان، وذلك الجميل الطويل القامة الرقيق العالي النبرة الضاحك أبداً والملتزم دائماً... جان شمعون!
المحبّ، الأنيق، الصديق الأبدي النزيه، المفعم باﻹيمان والموهبة.
جان شمعون. بأناقته دون ادعاء، بجرأته المحببة التي لا حدود لها، ببساطته، بموهبته المتنقلة بين المسرح والسينما وبين الناس. كان جان شمعون كالنسمة العليلة في صيف بقاعي يهدهد مسامعنا بصوته ولهجته الزحلاوية، وضحكته الرنانة. وأكثر من ذلك، كانت موهبته الطبيعية تنضح منه على المسرح كأنه الشخصية نفسها، ﻓﺈن إقناعه للآخر كان بديهياً وبسيطاً بالنسبة له.

ما أبعد تلك الأيّام المباركة عن هذا الزمن
الرديء الذي نرى فيه سينمائيّاً لبنانيّاً يصوّر في إسرائيل، ثم يجد من يصفّق له في بيروت

عندما بدأنا التمارين مع رضى كبريت وجان شمعون ونقولا دانييل ونزيه قطان وسارا سالم وميشال عساف وروجيه عساف ومحمد كبريت وغيرهم... بدأنا أولاً بالتمارين على حمل السلاح، فجئنا بمقاوم حقيقي ليعلمنا على حمل السلاح وبدأنا نكتب جميعاً ونغني ونضحك وكانت ميزة تلك التمارين الخلق والفرح، حتى جاء ذلك اليوم وكنا نقدّم في عين المريسة مسرحية «مجدلون». وفي عرضها الرابع وأمام جمهور حماسي، كنت أشعر أنّ السقف يعرق من حماسهم ومحبتهم وايمانهم. في يوم العرض الرابع، دخل الدرك ومنعونا من المتابعة وصعدوا على خشبة المسرح محاطين بفرقة 16 في الخارج وأجبرونا أن ننزل عن الخشبة وجان شمعون ونقولا والجميع بدأنا الغناء: «ما هم أن نموت في دوي صرخة الحرب، ما هم أن نموت في دوي صرخة الحرب، ما هم ما هم اذا وجدنا من بعدنا من يحمل السلاح يواصل الكفاح ويحمل الثورة للنصر اذا وجدنا بعدنا، فنحن لا نموت» هل كنا نحلم ؟ من كلمات تشي غيفارا وموسيقى وليد غلمية. وبوجود الصحافيين وجمهور أحاط بالمسرح، خرجنا جميعاً الى الشارع ومشينا من عين المريسة حتى «الهورس شو» في الحمرا ومشى الطلاب والجمهور معنا، وهناك تجمهر الناس، والمحبون والصحافيون وبدأنا بتمثيل المسرحية في المقهى، وبدأت بإلقاء قصيدة نزار قباني التي افتتح بها المسرحية، وتابعنا نص المسرحية واقتدنا بعدها الى المخفر بتهمة التمثيل.
كانت تلك الحادثة بمثابة عمادة لنا في المسرح وأول اقتراف للرقابة في لبنان.
ما أبعد تلك الأيّام المباركة ـــ أيّامك يا جان شمعون، ومسيرتك الغنيّة والخصبة والشجاعة ـــ عن هذا الزمن الرديء الذي بتنا نرى فيه سينمائيّاً لبنانيّاً يصوّر فيلمه في إسرائيل، ثم يجد من يصفّق له في بيروت، أو من يدافع عنه ويستقبله استقبال الفاتحين!
نقول دائماً إننا لا نعرف قيمة أصدقائنا الا بعد أن نخسرهم، هذا كلام غير دقيق. لقد عرفنا قيمته منذ أن تعرفنا اليه وعرفنا تميزه بكل ما قام به. لكن يا عزيزي جان في بلدنا الحبيب لبنان، يأتي الدعم والتقدير والإعجاب من الدولة على نعوش الكبار أمثالك، ألم تكتشف الدولة اللبنانية أن لبنان استديو طبيعي يستطيع أن يستقطب كل مخرجي العالم بتنوع أرضه وجماله!
عندما كان جان يجول بكاميرته في بيروت يسجل يومياتها وأنقاضها وحزنها ويلتقط صوراً لبيروت المشلّعة... أين كان دعم الدولة لكل هؤلاء المخرجين؟ فلو وصل الدعم والاهتمام والتقدير، لكانوا جميعاً عالميين ولكانوا تابعوا مسيرتهم دون عناء ولا يأس، ودون انقطاع.
ولكانوا بدأوا منذ زمن بعيد صناعة السينما في لبنان. لبنان الاستديو الطبيعي الذي نستطيع أن نصور في أرجائه الجميلة كل أنواع الأفلام، وكان بإمكاننا استقطاب العالم بأسره.
لم يأتِ مسؤول واحد حتى الآن وقال: لنستغل هذا المدخول المادي الثقافي الفني الصناعي.
صناعة السينما كان يمكن أن تجعل من السينمائيين الأوائل من جيل السبعينات أمثال جان شمعون، وبرهان علوية، ومارون بغدادي، ورندا الشهال، ومي مصري، وجوسلين صعب وغيرهم مخرجين عالميين منذ البداية. كان يمكن ألا تتعثر عجلةُ الإبداع والأحلام في لبنان بدل أن نقف جميعاً فنانين وسياسيين أمام جدران عاصية الولوج.

* كلمة الممثلة اللبنانية خلال الاحتفال الذي أقيم أمس في «مسرح المدينة» كتحية إلى رائد السينما الوثائقية في لبنان بمبادرة من «نادي لكل الناس» و«مركز الجنى» و«مسرح المدينة»