«يقوم المنفى على وجود مكان ينتمي إليه الإنسان بالولادة، وعلى التعلّق بهذا المكان والرابط معه. الحقيقة في مختلف أشكال المنفى ليست في ضياع الوطن وحب الوطن، بل إنّ الخسارة متأصلة في وجود الاثنين معاً».(إدوارد سعيد، «تأملات في المنفى»)

بهذا الاقتباس اختار المؤرخ الفنّي والكاتب مرتزى فالي أن يفتتح قراءته لـ «الحنين إلى المنزل» للفنان السوري هراير سركيسيان في كانون الثاني (يناير) 2015.

إنّه فيديو أنجزه سركيسيان عام 2014 يحتضنه «متحف سرسق» حتى 2 تشرين الأول (أكتوبر). اختار المتحف أن يعرضه مع فيديو «أفق» لسركيسيان أيضاً في الصالتين المتناظرتين (الطابق الأرضي) حيث تُنظّم «سلسلة معارض لفنانين في بداية مسيرتهم المهنية».
يشرّح عمر خليف، كبير القيّمين الفنيين في «متحف الفن المعاصر في شيكاغو»، عمل سركيسيان بدقة وأمانة: «ينتصب أمام أنظارنا مبنى من خمسة طوابق، مصنوع من الإسمنت- ثماني وحدات- مع شرفات بعضها فوق بعض. وفي الجزء الوسطي نوافذ من فولاذ يلفّها الظلام. هذه البنية الهندسية الموّزعة على شاشتين، ترتفع كنصب، هيكلية عمرانية مفعمة بالأمل في مشهدية فارغة. على الشاشة الثانية، تظهر يدان وتبدآن بالانقضاض على الواجهة رويداً رويداً، فتسحقانها تدريجاً وتصبح أشبه بالعجين. إنه الفنان. يبدأ السقف بالانهيار. يقع ركام وفتات على الأرض. إنه تدميرٌ بالحركة البطيئة. صمت خامل: يدمّر سركيسيان المبنى حتى يتحوّل إلى كومة أنقاض. المبنى أمامنا نموذج معماري دقيق عن منزل أهل الفنان في دمشق، الذين لا يزالون يعيشون فيه حتى يومنا هذا. على الرغم من أنّه تسنّت لهم فرصة الخروج من البلاد بصفة طالبي لجوء، صمدوا، ولم يتزحزحوا من مكانهم، يحدوهم الأمل إلى اليوم الذي سيتحقق فيه الانبعاث وإعادة البناء في أرض اتخذوها موطناً لهم. التدمير البطيء في تجهيز سركيسيان هو بمثابة مجازة استعارية عن الانحطاط التدريجي للمجتمع السوري: إنه حلمُ أرضٍ تهشَّم تاريخها، رغم تطلّعٍ يوتوبي إلى التحرير». ويضيف خليف: «سركيسيان نفسه عاش في هذا المنزل إلى حين مغادرته سوريا 2008. هذا المبنى ليس بالنسبة إليه منزلاً وحسب، بل إنه أيضاً مستوعب لذكرياته. إنه، تماماً كما هو بالنسبة إلى أهله، موطن للانتماء المستمر، مكانٌ يأمل، بترقُّبٍ، بأن يتمكّن من العودة إليه. هل هذه السردية هي اقتراح للمستقبل؟ يأخذ سركيسيان مصيره بين يديه، فيمتلك مستقبله. أم أنه فعل تطيّر معكوس؟ إذا تخيّل أن المنزل تحوّل إلى حطام، هل يحميه من تآكله النهائي؟».

يبدو أقرب إلى «شبح»
(2006 - 2007) مروان رشماوي

من جهتها، تشرح رئيسة قسم البرامج والمعارض في «متحف سرسق»، نورا رازيان في البيان الفني للمعرض: «غالباً ما تستند أعمال سركيسيان إلى علاقاته الشخصية بالجغرافيات والأشخاص. تتيح الصور الفوتوغرافية المشغولة بعناية، التي التُقطت بمعظمها بواسطة كاميرا كبيرة، انخراطاً أعمق مع المشهد، مما يُفضي إلى انكشاف بطيء للتفاصيل المعبِّرة، وبالتالي استحضار حكايا حُذفَت من الذاكرة وأماكن منسيّة. ينشغل سركيسيان بالحكايات الصغيرة، إنها قصص يومية غالباً ما تختفي من دون احتفال أو تحسُّر».
هراير سركيسيان (1973- دمشق) الذي يقيم ويعمل في لندن، تلقّى تدريبه التأسيسي في استوديو التصوير الخاص بوالده في دمشق. تابع تحصيله العلمي في الكلية الوطنية العليا للتصوير في آرل، في فرنسا. عام 2010، نال إجازة في التصوير من «أكاديمية جريت ريتفيلد» في امستردام. بحسب التعريف الذي ينشره المتحف: «تتمحور أعماله حول الذاكرة والهوية الشخصيتين والجماعيتين. يستخدم في صوره الفوتوغرافية عن البيئات والمشاهد المدينية، تقنيات وثائقية تقليدية لإعادة تقويم سرديات تاريخية أو سياسية أو اجتماعية أوسع نطاقاً».
في جولة سريعة على تاريخ الفنون المعاصرة والحديثة، يفصّل الكاتب ومؤرخ الفنون مُرتزى فالي: «ليس سركيسيان الأول بين الفنانين المعاصرين الذي عمِلَ على إنتاج نسخة دقيقة معمارياً عن المنزل. فيما أصبح الفن أكثر عالمية، والفنانون أكثر عبوراً للأوطان، بات المنزل موضوعاً يتردد باستمرار، موتيفاً مألوفاً يمكن من خلاله معالجة مسائل النزوح الثقافي، والفقدان، والذاكرة والماضي. تجسّد منحوتات دو هو سوه (1962 ــ سيول)، في عدد كبير منها، المنازل الكثيرة التي سكنها على مر السنين. أثيرية النسخ ذات الأحجام المطابقة للنماذج الأصلية، المنصوعة من نسيج زاهي الألوان إنما شفاف، والتي تقدّم أحياناً معلّقة في الجو، تُعيد صناعة هشاشة المنزل وطابعه المؤقت كتجربة بصرية وفينومينولوجية. وفي نموذج مصغّر مع عناية بالتفاصيل على غرار «نجمة ساقطة» (2008 ـــ 2011) وهو أكثر حضوراً على المستوى المادي، يجسّد سوه حرفياً صدام الحضارات الذي يعانيه المهاجرون عادةً، مع اصطدام المنازل بعضها ببعض. منذ عام 1996، صنع ريركريت تيرافانجيا (1961 ـــ الأرجنتين) نسخاً بالحجم الطبيعي عن شقته في نيويورك في صالات عرض ومتاحف حول العالم. هذه النسخ المصنوعة من مادة متواضعة عبارة عن لوائح الخشب الرقائقي، صالحة للاستعمال بالكامل ويمكن السكن فيها، ويستخدمها بحريّة جميع زوار المعرض الراغبين في ذلك. إنها تقتطع مساحات داخل المنظومة الانضباطية للمكعّب الأبيض، فتشكّل قوقعات قد تنكشف بداخلها ممارسات العيش المشترك. غير أن نموذج سركيسيان، كغرض نحتيّ، يبدو أقرب، في المقياس والمواد والانطباعات، إلى «شبح» (2006 ــــ 2007) مروان رشماوي، وهو نسخة عن «مبنى يعقوبيان» الحداثي في بيروت، حيث كان الفنان يعيش في ما مضى، والذي يشكّل خزّاناً للذكريات الشخصية، كما يوثّق تروما الحرب الأهلية اللبنانية».
هنا يعلِّل فالي فكرته: «ما يميّز مشروع سركيسيان عن هذه الأمثلة الأخرى هو المصير النهائي للنسخة التي صنعها عن المبنى. فالتركيب الذي عمل عليه بجهد طوال شهر، دُمِّر على الفور لدى إنجازه. وقد جرى تدميره يدوياً واستغرق ذلك يوماً بجزئه الأكبر. هذه العملية موثَّقة في صور ثابتة ومتحركة على السواء. تجسّد كل واحدة من الصور الأربع الأخرى الكبيرة الحجم في السلسلة، التدمير الواسع. وعند الوصول إلى الصورة الأخيرة، يكون المبنى قد سوّي بالأرض إلى حد كبير. تشبه هذه الصورة الفوتوغرافية، وهي في شكل أساسي صورة حياة صامتة التُقطت في الاستديو لكومة كبيرة من الركام الإسمنتي، الصور الصحافية التي تُنشر في أعقاب التفجيرات، فتستحضر بطريقة مخيفة المجزرة اليومية التي تُرتكب ليس فقط في سوريا، مسقط رأس سركيسيان، إنما أيضاً في أماكن مثل العراق وغزّة. منزل الطفولة حيث نشأ سركيسيان هو بمثابة نموذج عن الأعداد التي لا تُحصى من المنازل المدمّرة في مختلف أنحاء المنطقة».
ويبقى السؤال: لماذا دمّر هراير سركيسيان مجسم المنزل؟ وما علاقة المنفيين بأوطانهم الأم؟ متى تأكل الذكريات العقول والعاطفة؟ هل تطرح الفنون والفن التشكيلي بشكل خاص حلّاً لذلك؟

«الحنين إلى المنزل» لهراير سركيسيان: حتى 2 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «متحف سرسق» (الأشرفية ــ بيروت). للاستعلام: 01/202001