لا أعرف لماذا أحالني السجال الدائر حول زياد دويري وإقامته في تل أبيب لتصوير مقاطع فيلمه «الصدمة» الى كتابين اثنين تحولا الى مادة بصرية وفيلم في ما بعد: «الذاكرة، التاريخ، النسيان» لبول ريكور و«صمت البحر» لفيركور. وضع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور على غلاف مؤلفه العظيم «الذاكرة، التاريخ، النسيان» صورة معبرة لكرونوس، إله الزمن، متمثلاً بعجوز ذي جناحين، يحاول أن يمزق ورقة من الكتاب الذي يحمله، بينما ينتصب التاريخ فوقه على شكل امرأة شابة تترنح تحت ثقل حمولتها (الكتاب والمحبرة والريشة) وتحاول أن تعيق عمل الرب. بين الذاكرة والزمن، تعمل ماكينتا الذاكرة والنسيان: جروح الزمن، الزمن الذي يصنع النسيان، ومن ثم التاريخ الذي يحفظ ليخط كتباً أخرى انطلاقاً من الصفحات المنتزعة من الزمن.

السينما فن في قلب هذه الجدلية حول الذاكرة والنسيان. ريكور نفسه يتحدث عن «الحبكة»، والزمن «الذي لا يكون بشرياً» لا عندما يضبط بطريقة سردية. السينما أيضاً عمل للذاكرة التي تقوم بمثابة الـ matrix للتاريخ، لكن «حين لا نمتلك شيئاً أفضل من الذاكرة للتثبت من أن شيئاً ما قد حدث». اعتمد زياد دويري على أكثر من ذاكرة في فيلمه «قضية رقم 23» بين ياسر الفلسطيني الذي «يخرب بلاد العالم وبيشرب من بير العالم وبيرجمو بحجر» بحسب بشير الجميل البطل الأسطوري في ذاكرة طوني غريم ياسر، والذي يبدو أن دويري بحسب ما صرح به اثر توقيفه يفضل السردية الثانية بعدما «أرضعته أمه القضية الفلسطينية» لينتصر بعدها لبشير ومشروعه في ثأر أوديبي. سقطة دويري مرتبطة بالتاريخ.
لعل أفضلية التاريخ على الذاكرة هو في قدرة التاريخ على تصحيح ونقد وقد يكون تكذيب ذاكرة جماعة معينة، حين تنغلق على آلامها الخاصة الى درجة جعلها عمياء وصماء عن عذابات الآخرين. الفلسطينية التي تفجر نفسها في رواية ياسمينة خضرا هي المرادف الصاخب للحفيدة في رواية فيركور «صمت البحر» التي تقابل الضابط المحتل الذي يحدثها عن الفن والثقافة والموسيقى بالصمت المطبق. الفرق بين البطلتين بسيط لم يلحظه دويري (وياسمينة خضرا): بطلة فيركور بعد سبعين عاماً من انقضاء الحرب قد تكون وصلت الى العفو الذي بحسب ريكور يسمح بالتوسط بين «الغلو في الذاكرة» و«المبالغة في النسيان». كان ممكناً لدويري أن يعرف امرأة الجراح الفلسطينية في «الصدمة» التي تحمل صليبها من سبعين عاماً في آخر قضية احتلال كولونيالية في التاريخ، كذلك ياسر في «قضية رقم ٢٣» أكثر بقليل، على الأقل قدر معرفته بطوني وبالبيت الذي استأجره في تل أبيب كل تلك المدة. ياسر غير قادر على العفو، لأنه ليكتمل العفو، لا بد من هرم أسفله الخطأ وخطاب الاعتراف به، وفي قمته العفو، وهذا غير متوفر بالحد الأدنى. أما بخصوص البيت، فيعود بطل غسان كنفاني الى بيته الذي صادرته عائلة من بولونيا في حيفا بعد عشرين عاماً ليجد الأثاث كما هو. يعد ريش الطاووس في المزهرية ليجدها ناقصة ريشتين. يسأل ميريام التي احتلت البيت فتقول «عمري ما عددتها». في البيت الذي سكنه دويري للتصوير «لصعوبات تقنية» والشارع والبلد الممتد من البحر الى النهر ريش طاووس كثيرة. الحل الذي يهرب منه دويري موجود حتماً بالنسبة لياسر وكثيرين في نهاية رواية كنفاني.