يعيد «مترو المدينة» تقديم عرض «بلا تحشيش» المونودرامي الذي شاهدناه على خشبة «مسرح بيريت» في عام 2011. في هذا العرض، قرر المخرج والأكاديمي المسرحي ميشال جبر أن يتولّى بنفسه أداء الدور، ويخوض تجربة الـ One Man Show التي يحاذي الـ «ستاند آب كوميدي». أراد في عمله التهكمي اللاذع أن يضحك قليلاً، مستعيداً تلك الديناميكية التي تسمح بفسحة معقولة من التفاعل مع الجمهور.
«بلا تحشيش» هي كوميديا تهكمية لاذعة مستوحاة من نص مسرحي بعنوان «عن مضار التبغ» لأنطون تشيخوف. يتحدث النصّ عن «نيوخين» (اسم مشتق يعني في اللغة الروسية «الشمّام») المتزوج من امرأة متسلطة تملك مدرسة لتعليم الموسيقى وبانسيوناً. يخضع نيوخين لطلب زوجته بإلقاء محاضرة حول مضار التبغ في أحد الأنشطة الخيرية، فينتهي به الأمر بالحديث عن زوجته وبؤس حياته العائلية.
في صيغته اللبنانية، يبدو عنوان المسرحية أكثر عدائية «بلا تحشيش». لم يعد الموضوع مجرد حديث عن مضار التدخين، بل بانت من العنوان تلك النزعة الغاضبة والرافضة لدى بطل العمل ومخرجه في آن. نيوخين يصبح «فدعوس المقيّر». رجلٌ خاضعٌ من قمع زوجته مديرة إحدى الجمعيات الأهلية. لا يعاني الدكتور فدعوس من قمع زوجته فحسب، بل يتربصه الإحباط على كافة الصعد الشخصية، والعائلية والاجتماعية، والسياسية. في لحظة من لحظات الخضوع التي كان من يُفترض أن يلقي فيها محاضرة عن مضار التدخين، يقرر الحديث عن زوجته. لكن الزوجة في نصّ ميشال جبر تتخطى صورة المرأة المتسلطة البغيضة التي لا يطيقها زوجها. الزوجة هنا هي حمّالة أوجه ودلالات. هي مدخل لجبر كي ينتقد مجموعة من الظواهر الطاغية في مجتمعاتنا: تسليع المرأة لذاتها، فهم النسوية من قشورها، الذكورية في الفكر الديني، التعلق بالمظاهر، تحوّل كل طالب علم إلى زبون لدى مؤسسات التعليم الحديثة... من جملة ما ينتقده جبر أيضاً، قدرة اللبناني على التأقلم بسرعة وإيجاد البدائل حتى في ما يتعلق بالقرارات الحاسمة في حياته. قد يكون هذان العنصران (التأقلم وايجاد البدائل) عنصرين ايجابيين اذا ما تم اعتمادهما باعتدال وإذا لم يمسا الخيارات المصيرية. لكن عندما يصبح التأقلم واستسهال البدائل محوراً يزأبق يومياتنا ويبعدنا عن مبادئنا، هنا تبدأ المشكلة.
لعرض تلك الأفكار، سوف يلجأ جبر إلى اعتماد شخصيات نمطية كاريكاتورية من دون أن يسعى إلى تعميمها. يشدد المخرج في هذا السياق على أنّه «خطا خطوات تشيخوف، اذ أنّه يدين الظاهرة ولا يدين حاملها. إنّه يشفق على حاملها تماماً كما يفعل تشيخوف وعلى عكس مكسيم غوركي الذين يدين الظاهرة وحاملها في آن». على حد قوله، لا يسعى مخرج «هي في غياب الحب والموت» إلى محاكمة شخصياته النمطية على الخشبة.

كوميديا تهكمية
لاذعة مستوحاة من نصّ لتشيخوف
وفي النهاية، يلعب ميشال جبر دور الرجل الصغير، الضحية الذي لا يملك إلا أن يشفق على ذاته. استبدت به زوجته وخضع مرغماً لظواهر مجتمعه واضطر لتغيير اسمه واسم عائلته كونه لم يعد ملائماً لمنصبها كمديرة جمعية فرنكوفونية. في تلك الحال، على «فدعوس المقيّر» أن يصبح «ديس ماك كيري» المتأمرك وزوجته «وداد» تصبح «ديدي». من هنا، تبدأ نواة السيطرة المحكمة على حياة رجل مستضعف. إلا أنّ هذا الرجل ما زال ــ وفي كل لحظة ــ ينشد الحرية من دون أن يملك بالضرورة الجرأة على دفع أثمان ووزنات الحرية المنشودة تلك.
خلال عرضه، يستعين ميشال جبر بنصوص عدة منها الأدبي والديني ليمتن آراء شخصيته كنص من العهد القديم (سفر الخروج، الفصل العشرين): «لا تشتهي امرأة جارك، ولا ماله، ولا حقله...» أو نص «الجثة الحية» لتولستوي الذي يتحدث عن رجل يهرب من زوجته، ويلجأ إلى مجموعة من الغجريين ويبدأ بالرقص رقصة غجرية بما تنشده تلك الرقصة من حرّية مشتهاة.
لكن هل سينتهي مصير «فدعوس» كما انتهى مصير بطل الجثة الحية؟ علينا أن ننتظر اللحظات الأخيرة للعرض. وهل سيكثر ميشال جبر في معالجته من استضعاف شخصية «فدعوس المقيّر» ويحكم على حشرها في خانة الضحية طوال الوقت لصالح مزيد من كاريكاتورية المواقف والكوميديا؟ علينا أن ننتظر بداية العرض ونترقب حركة وكلمات هذا الرجل الستيني الذي لم تنهكه أهوال الخشبة اللبنانية بعد إلى حد التوقف عن الصعود إلى الخشبة. لا يخفي جبر أنه حاول في السنوات الثلاث الأخيرة العمل على أعمال مسرحية عدة تضم أكثر من ممثل، لكنه كان دائماً يصطدم بعقبات إنتاجية. لم يبق أمامه سوى المونودراما وتقديم مسرحيته السابقة التي يرى في إعادة عرضها إفادةً ما، إذ لم يتبدل شيء منذ عام ٢٠١١ حتى اليوم. على العكس، فكل تلك الظواهر التي تحدث عنها، باتت أكثر تفشياً ونفوراً.
على صعيد آخر، لا يؤمن ميشال جبر كثيراً بوجود ما يسمى بالـ «مسرح العربي»، بل يرى أنّ هناك حركة مسرحية عربية لطالما بنيت على سواعد أفراد. أهي مشكلة أو نعمة؟ وهل نستطيع التعميم؟ ليس من الضروري الإجابة الآن. لعله باب لطرح الموضوع من بابه الواسع في حديث آخر. تأهب ميشال جبر عن كرسيه ومشى مسرعاً إلى يومياته، فأمامه نهار طويل خط ساعاته الأولى للتو، فيما تنتظره الكثير من متوجبات العمل والعائلة.

* «بلا تحشيش» لميشال جبر: بدءاً من الليلة (21:30) حتى 29 تموز (يوليو) ـــ «مترو المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 76/309363