آخر ما يمكن أن يفكّر فيه المرء أثناء الاستماع إلى برامج إذاعة «سوريانا» أنّه يتابع إعلاماً سورياً رسمياً. فاللغة الخشبية والأسلوب المدرسي الحذر، يتلاشيان كلياً هنا لصالح الحيوية والرشاقة والمرونة وسرعة البديهة، إضافة إلى جرعات من الجرأة الممزوجة بالمغامرة والتهوّر في آن معاً.
تلك مميّزات الإذاعة السورية الأهم هذه الأيام، والتي تشغل الوسط الإعلامي السوري بوهم زائف، حول حجم الدعم الذي تتلاقاه وينفرد به كادرها حتى تتمكن من التحليق في فضاء خاص. فالإذاعة التي تبثّ من مبنى الإذاعة والتلفزيون في ساحة الأمويين في دمشق، لا تزال حتى اليوم تستقبل أشرس المعارضين السوريين وأكثرهم عداء للدولة السورية، لكنّها تعرف كيف تحاورهم، وغالباً ما تترك فرصة للمتلقي كي يدرك هشاشة رواياتهم، وضعف مواقفهم، وارتهانهم بشكل كلي للخارج. يعتقد البعض أنّ الأمر يحصل وفق خطة منسقة مع جهات وصائية على الإعلام، لكن الحقيقة أنّ كل ما يجري في هذا المنبر وأسلوب تعاطيه المعاصر، مرهون بجرأة استثنائية متمثّلة بشخص مدير الإذاعة الإعلامي السوري وضّاح الخاطر. الشاب الثلاثيني الذي انطلق من «إذاعة دمشق»، يرتبط مشروعه الإعلامي بالوسائل المسموعة حصراً، وكان قد ترك انطباعاً بالغ الأثر لدى مدرائه، حتى تم اختياره لتولّي منصب الإدارة في الإذاعة السورية التي تحوّلت إلى حصان رابح، ومضرب مثل، وحالة نموذجية يُحتذى بها.
ببساطة وبضربة واحدة، هدم الخاطر كلّ ما عُرف عن شكل المدير الرسمي. تخلّى عن ربطة العنق، لصالح الجينز والسيجارة التي لا تنطفئ، وترك باب مكتبه مفتوحاً حتى في فترة الاجتماعات. هكذا، ظلت الأولوية بالنسبة إليه هي أي موظف أو مشتكٍ أو زائر عادي. ربط استديواته بمكتبه، وتابع فريقه أوّلاً بأوّل وعلى مدار الساعة، إذ يقيم ليلاً نهاراً في هذا المكان، ويتباهى بأنّها «سوريانا» هي الإذاعة السورية الوحيدة التي تبث على مدار 24 ساعة أشياء جديدة، بينما تعيد كل الإذاعات البرنامج نفسها لتغطّي ساعات البث.
بنى الخاطر علاقة وطيدة مع فريق عمله، لدرجة أنّه ينخرط في حلّ مشكلاتهم الشخصية، فيما ذروة الحوافز التي يمنحها هي كلمة شكر، وفنجان قهوة في مكتبه، بينما سقف العقوبة التي يهدّد بها كل مقصّر هي مخاصمة موظفه والتوقف عن التحدّث إليه. فإذا به وفق مخططه الإنساني يحصد ولاء الموظفين وإخلاصهم لصالح منبرهم. حتى أنّ مكتبه طُلي بعبارات المحبة يوم فكّر بالتخلّي عن المنصب. يحكي الخاطر في حوار طويل مع «الأخبار» قصة هذه الإذاعة وتوليه إدارتها والحالة التي فكّر لخلقها من خلال هذا المنبر، إلى جانب العوائق التي تعترض دربه كل لحظة. يعترف بأنّه لم يصل إلى الصيغة الاحترافية التي يطمح إليها لأنّ «الإعلام المحترف يحتاج إلى مال وفير وهو ما ينقصنا». ثم يطلب منّا التراجع عن النشر، لاعتقاده بأن نصف الحقيقة لم تروِه يوماً!.

التطرّق إلى هموم الناس، والفساد، مع جرعات من الترفيه الذي يحترم ذوق المستمعين


لكن بعد متابعة الدورة البرامجية للإذاعة، لا يحتاج الزائر فعلياً أكثر من دقائق معدودة ليكتشف سرّ الجو الحميمي الذي يصل إلى متابعي «سوريانا» التي تحقّق ريادتها عبر بضعة كمبيوترات وحفنة موظفين. انطلاقاً من شكل مكاتبها الأنيق الذي ثبّتت على جدرانها صوراً كبيرة لشعراء مثل محمود درويش وأدونيس وسعيد عقل، وصولاً إلى الألوان التي تنسجم مع شعار القناة، وتعكس شيئاً من جرأتها. لا توجد مقاييس وصفة سحرية لخطاب الإذاعة التي تبث إضافة لموجة الـ «أف. أم» شاشة «سلايدات» على القمر الاصطناعي «نايل سات». كل ما في الأمر أنّها تعطي الأولوية في الخبر لما يخص الميدان والمواطن، وتنظر بعين الاستخفاف من حيث الترتيب والأهمية للأنشطة الحكومية الدورية التي لم تسمن ولم تغن من جوع.
تواكب تقدّمات الجيش وإنجازاته بالطريقة نفسها التي تشتبك فيها مع أحوال المواطنين ومتطلباتهم، في الوقت الذي لا تتوانى فيه عن فتح استديواتها لخدمات المواطنين وقضاياهم الصغرى التي تعتبر واحدة من أهم أهداف الإعلام المحلي. هكذا، يتولى المذيع غيلان الغبرة مهمّة التصدّي للمسؤولين وملاحقتهم وتسليط الضوء على فساد وتقصير بعضهم، بمنطق حماسي يصل إلى مستوى الهجوم المشروع. يستضيف الغبرة في برنامجه «استديو الخدمات» وزارء ومدراء ومسؤولين، ويربطهم مع مواطنين ومشتكين وأصحاب حق، ويواصل متابعة الموضوع حتى يصل إلى نتيجة.
في السياق نفسه، تنضم «سوريانا» إلى استديوات الفضائية السورية عند تقديم برنامج «من الآخر» (هيثم حسن وجعفر أحمد)، لتعيد ترتيب الأوراق مع مسؤولين ومحافظين ووزراء، بطريقة استقصائية تميط اللثام عن كل لبس، وتكشف المستور. من جانبها، تتولّى المذيعة عائشة الخرّاط على سبيل المثال مهمّة التنويع والتسلية، إذ تصنع بخفة ظل نادرة من الهواء العابر في بعض الأحيان صيغة ترفيهية جذابة. الهواء المفتوح يمنح وقتاً طويلاً لقصائد محمود درويش، ومظفرّ النواب، وسعيد عقل، تواكبها سوية طربية رفيعة من مدراس الرحابنة، وصوت فيروز, إلى الشيخ إمام، ثم محمد منير، ومرسيل خليفة، وماجدة الرومي، وأميمة الخليل... وصولاً إلى الحديث والشعبي الذي يتم اختياره بعناية فائقة، من دون التفريط بالعامة من المستمعين. كما أنّها لا تنحدر نحو سوية لا تليق أو تشبه سياسة خطاب «سوريانا»، الإذاعة التي تعطي كلّ يوم نموذجاً ناصعاً للإعلام المحلي الرسمي على وجه التحديد.