بغداد | أيّ كتابة تخلّد نفسها، هي محفورة بقوّة صنعتها ومعرفة صانعها، وإن كان العبور من المآسي والغربة وأوهام الحبّ والبحث عن الحبيبة المفتقدة، هو أهمّ المفاتيح نحو موطن هذا الخلود. السياب الذي تذوّقت سيرته هذه العشبة الأسطوريّة، صار خالداً بما تركه لنا من ملاحم في الشعر. تحضر في البال مجموعة عوامل ارتقت به إلى هذه المكانة في الشعر العربي والعالمي أيضاً، منها ذكاؤه في توظيف ذاكرته وكيفية استرجاعه الانتماء إلى الأمكنة التي نشأ فيها، حيث جيكور، قريته التي منحها شهرة عالميّة بفعل قصائده، إلى درجة جعلها جنّته التي ولد وعاش فيها ذات يوم. «هل أنّ جيكور كانت قبل جيكور/ في خاطر الله في نبع من النور» (من قصيدة «أفياء جيكور»)، يكتب عنها وروحه تعشّقت بفسائل نخيلها ومائها، ماء «بويب» الذي تغنّى به.
عامل ثانٍ يعطي للسياب أسبقية التميّز عن غيره: إنّه شاعر اغتراب بحقّ، إذ ما أن تقرأ له تعود لتسأل كيف له أن يتحرّى عن لحظة موته ويتعايش معها بوعي وشجاعة؟ وكيف لهذا الكم من المأساوية أن يكون حاضراً بهذا المنحى الجمالي الجذاب؟ حيث الربط بين الذاتي والعام في أكثر من قصيدة، واحد من مهارات بدر في الشعر، فالذات ضائعة تبحث في أتون ضياع وجودي وإنساني أكبر ازداد فداحة من حوله.

وظّف صاحب «المعبد الغريق» و«المومس العمياء»، الأسطورة بتمثّلات عدة. مرّة جعلها وسيلة لاستنهاض طاقة التعبير الشعري عنده، كما في استعارته لاسم عشتار والمسيح، ومرة يعطيها المجال كلّه لتكون بنية عامة للنص.

وظّف صاحب
«المعبد الغريق» الأسطورة بتمثّلات عدة

«أنشودة المطر» تصح كمثال للإشارة، ومرّة ثالثة يصنع من الموجودات حوله ومن أشيائه وأحاسيسه، أساطير يصدّرها إلى قارئ قصيدته، ولنا في «شباك وفيقة» و«شناشيل ابنة الجلبي» أقرب الأمثلة على الأساطير الخاصة التي ألفها السياب.
ورغم جذوة حياته وتمرّده على منحدراتها ومعاناته فيها، كان البصريّ النحيل شاعر موت يحوك نهاياته ببطء. لازمه هذا الشعور من قصّة حب فاشلة إلى تجربة مرض تطيح به، كان خلالها غياب الآخر- المرأة التي يبحث عنها ـ هو موت متجدّد بالنسبة إليه، وربّما استشراف مسبق لرحلة الحياة القصيرة التي عاشها.
إنّ الذي حازه السياب، ليس فقط الاعتراف الأدبي الذي هو رأسمال الشاعر والكاتب، بل إنّ تراثه الشعري صار منطلقاً للموهوبين من بعده ليسترشدوا به ويمعنوا في مراحله بما ضمّته من تبدّلات سياسيّة لعلّ بدر في لجّتها، وتحوّلات ثقافيّة عدّ فيها أبرز رموزها المجدّدين. كما إنّ اسمه بات مداراً يخوض في تفرّده النقّاد وشعراء الأجيال المتعاقبة، فمن منّا لم يتأثّر به، العراقيّين أولاً والعرب بدرجة ثانية وربّما أقلّ؟
ونحن نتوقّف عند بدر شاكر السياب، بتجربته الرياديّة وسيرته الثرّية، موجّهين له رسائلنا، التي هي رسائل افتراضيّة لن يسمعها هو في العالم الآخر، كأنّنا ـ عبر بدر ومناسبته هذه- نبتغي تمجيد الحياة المهدّدة والمتراجعة عراقيّاً وعربيّاً، ونقرّ أيضاً بقيمة الافتراض اليوم في زمن اللامتوقع، حيث الحيّ الذي يفترض أنّه حيّ وقلبه ينبض، يصبح ميّتاً ومتشظيّاً بعد دقائق، واللص أو القائد الفاشل يصبح زعيماً وطنيّاً تحميه البنادق والهتافات.